115

وكان إجماع الأعضاء على توقيره وحبه يريحه كثيرا من كلفة الرجوع إلى النظام في رعايته لسنة المساواة التامة بين الأعضاء عند إبداء الآراء، ولكنه كان يعمد إلى الصمت الوديع؛ كلما احتدم النقاش، وحميت وقدة الخلاف، وتكلم من يتكلم، ورد عليه من يرد، واعترض عليهما من يعترض دفعة واحدة. تختلط فيها الأصوات، وتحار معها الأسماع.

ويميل الرئيس إلى أقرب الأعضاء إليه يسأله مستسلما: هل آمنت معي بأننا في المجمع اللغوي؟ ويتفق أن أكون إلى جواره فأقول: بغير شك يا أستاذنا، وتسكين الغين في هذه الساعة!

ويعود النظام توا في لمحة عين. وقبل أن يحوجه الأعضاء إلى دق الجرس؛ لأنهم يفهمون من همسته في أذن جاره أو انطوائه على صمته أنه يدق لهم أبلغ الأجراس!

وقد عرفناه من قبل، ومن بعد، على صورته التي لا تتغير ولا يختلف مظهر منها عن مخبر؛ لأنها صورة المفكر الذي تتجلى أعمق أفكاره في مسالك حياته، والذي يعيش لفكره وبفكره وعلى وفاق فكره، ثائرا محافظا على قدره، وديمقراطيا في قرارة طبعه، يزيده من الديمقراطية ولا ينقصها عنده أنه لم ينسها قط وهو في سمت العلية وفي عزوف الحكيم الفيلسوف.

3

كان «لطفي السيد» من المرحبين بالظاهرة الأدبية التي تمثلت في فن «المنفلوطي»، أو في أسلوبه الإنشائي، عند ظهورها في عالم الصحافة وبعد جمع المقالات في كتاب «النظرات»؛ لأن المقالة الإنشائية كانت «قالبا لفظيا» لا عناية فيه بالمعنى قبل «المنفلوطي»، وقبل «محمد المويلحي» في فصول «عيسى بن هشام» على التخصيص، فكانت كتابة «المنفلوطي» على عهد «الجريدة» التي كان يحررها «لطفي السيد» ظاهرة ملحوظة بين المنشئين.

وقد كتب في تقريظ مقالات «النظرات» يقول:

من الكتاب من هو ضنين بشخصيته لا يدعها تتلاشى في بيئة الكتاب، لا يتكلف تقليد شيخ من أشياخ الكتابة ولا يكتب للكتابة، بل لا يكتب إلا إذا قامت بنفسه أغراض واضحة يجب أن يبرزها للناس في الثوب الذي يناسبها على تفصيل «مودة» الأذواق الحاضرة، وحسبما يقتضيه الفصل الزمني للأفكار. وكتاب هذا الصنف قليلون عادة في كل أمة وفي كل جيل، إلا أن كتاباتهم على قلتها هي المربي الوحيد للأمم والعلل الأولى التي تدفعها إلى الأخذ بكل نوع من أنواع الرقي والنجاح، وهي خير اللغات وأبقاها.

ثم ينتقل من هذا التمهيد فيقول عن أسلوب «المنفلوطي» بين هذه الأساليب:

من أشياخ البيان عندنا السيد «مصطفى المنفلوطي». أكاد لا أجد له في طريقته مثيلا بين كتابنا، فإنه يمتاز بالمساواة، وقل من يعرف المساواة. يمتاز باستعمال ألفاظ الخصوص، فلا يلبس معنى الألفاظ الذي لا يكاد يشاركه فيه معنى آخر.

Unknown page