إلى كل من سافر وعرف الغربة بعيدا عن الوطن، وإلى كل من عاش الغربة في الوطن.
نوال السعداوي
القاهرة، 1984
الفصل الأول
أول رحلة خارج الوطن
منذ الطفولة كان الوطن في عيني هو الحب، صدر أمي الدافئ ورائحة اللبن، يد أبي في الليل البارد تغطيني، صوت جدتي في ليالي الصيف تحكي قصة الغولة وجنية البحر، رائحة الخبيز والجميز والتين الشوكي، والزلعة على رأس ابنة عمي فاطمة ممتلئة حتى الحافة بماء النيل، وأمواج البحر في الإسكندرية، وهدير الطلبة في الشارع يهتفون: يسقط الملك.
وفي شبابي أصبح الوطن هو الثورة، والثورة هي الحب، ولأن الحب كان محرما فقد أصبحت الثورة محرمة أيضا، تقودني إلى السجن لا إلى الحرية.
وكان حلم حياتي هو الطيران والفرار من السجن، وفي طفولتي كان هناك حلم يتكرر: أن أبي مات وأصبحت أخرج بدون إذن. وفي شبابي حلم آخر مشابه: أن زوجي مات وأصبحت كاملة الأهلية.
كان أبي أكبر حب في حياتي، ومع ذلك كنت أحسد الأطفال اليتامى بغير آباء، وأول ثورة في حياتي كانت ضد أبي، وأراد أن يزوجني رجلا لا أحبه، وكنت بخيال مراهقة أعيش أحلام اليقظة، وأحب في الخيال بطلا يمتطي السلاح ويضرب الأعداء ويحرر الوطن ... ثم يضمني بين ذراعيه ويقبلني وأفقد الوعي ... وأنسى أبي وأمي وإخوتي وجدتي وكل آلامي.
لكنه ضمني وقبلني فلم أفقد الوعي، ولم أنس شيئا، حتى حكايات جدتي عن الغولة والجان والعفاريت لم أنسها، واكتشفت أول حقيقة في حياتي: أن الحب الأول وهم، والبطولة خيال، والوطن لم يتحرر.
Unknown page