قبل منتصف الليل عدت إلى غرفتي بالفندق، ورأيت الورقة الصغيرة، وكلمات بخط دقيق منمق يشبه الشارب الدقيق المنمق، الحرف بجوار الحرف كالشعرة بجوار الشعرة في دقة شديدة أشبه بالحذر: «أدعوك إلى العشاء معي.»
أكاد لا أعرف الاسم، أيكون هو الدكتور جميل ياسر؟ حضرت بعض محاضراته في مدرج علي إبراهيم في كلية قصر العيني، وألقى بحثا في المؤتمر بالأمس عن طريقة جديدة لاستئصال ورم المخ، متوسط القامة يميل إلى الامتلاء خاصة عند البطن والفخذين، له نظرة حادة حين ينصت باهتمام، شعره أسود بلون الصبغة الفاحمة السوداء، تجاعيد العمر واضحة حول العينين والفم، أسنانه صغيرة صفراء من كثرة التدخين، وحين يمشي يتكئ بجسمه على ساقه اليمنى كأن بقدمه اليسرى عرجا خفيفا. لم يكلمني وأنا طالبة ولم أكلمه، وقابلته بعد التخرج مرات قليلة في اجتماعات عابرة، ولم نتكلم أيضا. لم أكن أظن أنه يعرفني، وفي قاعات المؤتمر كنت أراه يمشي وإلى جواره زوجته يسبقها بخطوة، في الصباح دق جرس التليفون في غرفتي وقال: أنا جميل. - جميل من؟ - الدكتور جميل ياسر. - ولكنك في الورقة كتبت جميل علي. - اسمي الثلاثي جميل علي ياسر. - ولماذا لم تكتب جميل ياسر؟ - خشيت أن تقع الورقة في يد أحد غيرك. - أتعني أن جميل علي هو اسمك التنكري؟ - تقريبا. - ولماذا تتنكر؟ - التقاليد تطاردنا أينما سافرنا. - وهل أنت ضد التقاليد؟ - حين أسافر نعم. - هل ستأتي معك زوجتك؟
وصمت لحظة ثم قال: لا، إنها تفضل البقاء بالفندق.
وأردف: هل أمر عليك في السادسة والنصف؟
قلت: لا. - أترفضين دعوتي؟ - لا، ولكني أرفض دعوة «جميل علي». - لماذا؟ - لأني لا أعرفه.
وتساءل: ودعوة جميل ياسر؟ هل تقبلينها؟ - لا. - لماذا؟ - لأني أعرفه. •••
سافرت إلى الجزائر مرات أخرى بعد هذه الرحلة الأولى عام 1963، لكن صورة الجزائر ظلت في ذاكرتي كما رأيتها أول مرة، كوجه إنسان يشدنا لأول وهلة، وتظل الصورة الأولى محفورة في الذاكرة رغم تغير الملامح.
الجبل الأخضر يحتضن البحر الأزرق، الارتفاع الشاهق ينحدر بحدة وبلا تدرج، والصخور حمراء، وعينا الفدائي الجزائري «شهيب» نفاذتان ثاقبتان كعيني الفهد، لونهما أزرق كالسماء. لكنه إذا نظر ناحية الجبل تحولت الزرقة في عينيه إلى خضرة داكنة كالغابة، فإذا ما حرك رأسه ناحية البحر أصبحت الخضرة في المقلتين زرقاء عميقة الأغوار كمياه البحر.
شعرت بالقرب منه وهو صامت. أحب في الرجل صمته؛ فالصمت أصدق ، وملمس يده في يدي مألوف، لكن إذا ما نطق وسمعت تلك اللهجة الجزائرية الفرنسية نصف العربية رأيته رجلا غريبا.
وضحك فاردا ذراعيه عن آخرهما محتضنا البحر والجبل والسماء والشمس، وحاول أن يحتضنني فابتعدت؛ صوت أمي لا زال في أذني منذ الطفولة: لا تثقي في أي رجل غريب.
Unknown page