239

لو أفرغوا لها من الوقت ربع ما أفرغوه للحديث والتفسير والفقه والنحو والصرف لكانوا من الصناعة ومن ثم من التجارة والثروة على حظ يضاهي حظوظ الأمم الأوربية.

ولكنا قد أهملنا علوم هذه الدنيا ، وحصرنا جميع عنايتنا بعلوم الآخرة (1) ، غير ذاكرين أن الإسلام إنما هو شرع دنيا وآخرة ، وأن من أهمل أحد الشقين فهو آثم ، كما لو أهمل الشق الآخر.

ونعود إلى الدبابات فنقول : إن الفرنج قد استعملوها من القديم ، وأهم ما روي عنهم فيها ما صنعوه في حصار عكا في الحروب الصليبية ، فقد صنعوا ثلاثة أبراج طول البرج ستون ذراعا ، جاءوا بخشبها من جزائر البحر ، وعملوها طبقات ، وشحنوها بالمقاتلة ، ولبسوها جلود البقر والطين بالخل ، وقربوها من الأسوار ، وكادوا يأخذون بها البلد ، لأن المسلمين رموها بالنيران ، فلم تعمل فيها ، فحاروا في أمرهم ، ودخل عليهم من الخوف ما لا يوصف. قال أبو الفداء : فتحيل المسلمون ، وأحرقوا البرج الأول ، فاحترق بمن فيه من الرجال والسلاح ، ثم أحرقوا الثاني والثالث ، وانبسطت نفوس المسلمين لذلك بعد الكآبة.

وقد روى بهاء الدين ابن شداد في سيرة صلاح الدين يوسف الأيوبي وكان ابن شداد شاهدا تلك الوقائع ، ملازما للسلطان [قال] : إن الذي تحيل لإحراق هذه الأبراج المسيرة على العجل ، بعد أن أعياهم أمرها كان نحاسا حمويا ، قال للمسلمين : أنا أكفيكم أمرها ، بشرط أن تهيئوا لي كذا وكذا ، وذكر موادا أتوا له بها ، فطبخ من هذه المواد ثلاث قدور ، ورمى كل دبابة بقدر منها ، فلم تكد تصيبها حتى اشتعلت بمن فيها جميعا ، فكان من فرح المسلمين بصناعة هذا النحاس الحموي ما لا تفي به عبارة.

Page 275