174

Rihla

رحلة ابن جبير - الجزء1

Publisher

دار بيروت للطباعة والنشر

Edition Number

الأولى

Publisher Location

بيروت

كدية١ على الأعاجم والحضارين لهذا الخيطب القليل التوفيق فمنهم من يطرح الثوب النفيس ومنهم من يخرج الشقة الغالية من الحرير فيعطيها وقد اعدها لذلك ومنهم من يخلع عمامته فينبذها ومنهم من يتجرد عن برده فيلقى به ومنهم من لا يتسع حاله لذلك فيسمح بفضله من الخام ومنهم من يدفع القراضة من الذهب ومنهم من يمد يده بالدينار والدينارين إلى غير ذلك ومن النساء من تطرح خلخالها وتخرج خاتمها فتلقيه إلى ما يطول الوصف له من ذلك. والخطيب في أثناء هذه الحال كلها جالس على المنبر يلحظ هؤلاء المستجدين المستسعين على الناس بلحظات يكررها الطمع ويعيدها الرغبة والاستزادة إلى أن كاد الوقت ينقضى والصلاة تفوت وقد ضج من له دين وصحة من الناس وأعلن بالصياح وهو قاعد ينتظر اشتفاف صبابة الكدية وقد أراق عن وجهه ماء الحياء فاجتمع له من ذلك السحت المؤلف كوم عظيم امامه فلما ارضاه قام وأكمل الخطبة وصلى بالناس وانصرف أهل التحصيل باكين على الدين يائسين من فلاح الدينا متحققين اشراط الآخرة ولله الأمر من قبل ومن بعد!
وفي عشي ذلك اليوم المبارك كان وداعنا للروضة المباركة والتربة المقدسة فياله وداعا عجبا ذهلت له النفوس ارتياعا حتى طارت شعاعا واستشرت به النفوس التياعا حتى ذابت انصداعا وما ظنك بموقف ناجي التوديع فيه سيد الأولين والاخرين وخاتم النبيين ورسول رب العالمين؟ إنه لموقف تنفطر له الافئدة وتطش به الألباب الثابتة المتئدة فوا أسفاه وا أسفاه! كل يبوح لديه بأشواقه ولا يجد بدا من فارقه فما يتسطيع إلى الصبر سبيلا ولا تسمع في هول ذلك المقام إلا رنة وعويلا وكل بلسان الحال ينشد:
محبتي تقتضي مقامي
...
وحالتي تقتضى الرحيلا

١ الكدية: الشحاذة.

1 / 180