وفي هذه العزلة النائية، وفد على ڤاجنر أصدقاء قدماء، هم هانس فون بيلوف
Hans Von Bülow
وزوجته كوزيما
Cosima
ابنة ليست. ولا جدال في أن ڤاجنر كان سعيدا بهؤلاء الضيوف؛ لا لأن الجميع كانوا من أسرة موسيقية واحدة، ولا لطيبة قلب بيلوف وتقديسه لفن ڤاجنر، بل لأن تيارا خفيا قد سرى بين الفنان المشتعل عاطفة، وبين زوجة صديقه. كان بينه وبين كوزيما إعجاب صامت وتفاهم غامض، استشفه ڤاجنر من نظراتها الخفية إليه وهو يعزف ألحانه أو يغنيها للجماعة الصغيرة؛ فكانت تصغي إليه في سكون، فإذا سئلت عن رأيها، لم تجد ما تجيب به سوى البكاء!
وفي هذه الأثناء أتاه نبأ كان ينتظره بصبر نافد؛ فقد فتحت عواصم الموسيقى في العالم أبوابها لدراماته ، وتوالت عليه العروض من كبريات مدن ألمانيا وأوروبا عامة، فانصرف مؤقتا عن إتمام «أساطين الطرب» ليتفرغ إلى هذه المهام الجديدة الناجحة. وهكذا استقبلته فرنكفورت وليبتسج استقبالا لم يحلم به، وعرفت ڤيينا كيف تتذوق موسيقاه، واستدعته «براج» في أوائل سنة 1863م، وكان ترحيبها به موضع دهشته. وفي «سان بيترزبرج» عاصمة روسيا امتدت موجة النجاح الهائلة التي أصبحت تصادف ڤاجنر أينما حل، وحازت مقطوعاته إعجاب الجماهير وتقدير النقاد وأثارت حماس الفنانين العازفين.
وانتقلت الحماسة إلى موسكو التي مجدت الفن الجديد في شخص مبدعه، وتنافس أعيانها على شرف تكريمه. ورحبت المجر بڤاجنر حين استمعت عاصمتها «بشت» إلى روائعه، واستقبله شعبها بحماس شديد.
كان ذلك كله نجاحا باهرا ولا شك - ولكن هل تحسنت حالته المادية بعد كل هذا؟ الواقع أنه ما إن بدأ عام 1864م حتى أشرفت سفينته على الغرق، وأصبح مركزه المالي ميئوسا منه تماما؛ فرغم ما جناه في تلك الرحلات الناجحة من أرباح، فإن تبذيره واستهانته بالمستقبل أو تفاؤله الغامض الذي كان يلازمه في أحلك ساعات اليأس، جعل من المستحيل عليه أن يبقي على شيء للظروف، بل كان ينفق عن سعة، فإن نفد ماله لجأ إلى الحل الذي كان يراه طبيعيا؛ وهو الاستدانة. ولا يسع المرء بعد كل هذا الاستهتار إلا أن يقول مع صديقه كورنيليوس
Cornelius : «إن أخلاق ڤاجنر ضعيفة لم تقم على أساس صحيح؛ إذ حفل مجرى حياته بشواهد الأنانية التي تركته في متاهات أخلاقية لا يعرف منها مخرجا. كان يستخدم الناس من أجل ذاته فحسب، دون أن يدفعه نحوهم أي شعور صادق، بل دون أن يرد إليهم ما يدين به لهم من ولاء. لقد ركز ڤاجنر كل همه في تغليب السمو العقلي على السمو الأخلاقي في نفسه، وأخشى أن يكون نقد الأجيال القادمة له في هذا الباب أشد وأخطر ...»
مع الملك في باڤاريا
Unknown page