Richard Feynmann
ريتشارد فاينمان: حياته في العلم
Genres
على نحو مدهش، أدى فاينمان عمله في وقت لم تكن فيه كل الأشياء التي يعرفها العلماء الآن عن الكون بأكبر مقاييسه معلومة. غير أنه تبين أن حدسه في عدد من المجالات الجوهرية كان صائبا، باستثناء واحد، إلى جانب أن التجارب التي أجريت على أحدث مشاهدات علم الكونيات سرعان ما قدمت أول دليل مباشر على أن تصوره الخاص بالجرافيتونات باعتبارها الكموم الأساسية في مجال الجاذبية كان صحيحا.
أدرك فاينمان مبكرا وجود احتمال أن يكون إجمالي طاقة منظومة ما من الجسيمات هو صفر بالضبط. وعلى الرغم من الغرابة التي قد يبدو عليها هذا الأمر، فإنه ممكن لأنه مع أن الأمر يحتاج إلى طاقة موجبة من أجل تخليق جسيمات من العدم، فإن قوة جذبها الصافية تشي بأن لديها «طاقة وضع جذبوية» سالبة؛ فبسبب وجوب بذل شغل للتغلب على انجذابها بعضها لبعض، فإن صافي الطاقة المفقودة بعد خلقها ثم تجاذبها معا ربما يعوض بالضبط الطاقة الموجبة التي كانت مطلوبة لتخليقها. وعلى حد تعبير فاينمان في محاضراته حول الجاذبية: «من المثير أن نفكر في أن تخليق جسيم جديد لا يكلف شيئا.»
ولعلها خطوة بسيطة بعد ذلك أن نطرح فكرة أن إجمالي طاقة الكون برمته ربما كان صفرا. ومثل هذا الكون الذي إجمالي طاقته يساوي صفرا أمر جذاب؛ لأنه يسمح بالقول إن الكون بدأ من عدم. فكل المادة والطاقة التي نراها ربما تكون نشأت من تذبذب ميكانيكي كمي (بما في ذلك تذبذب ميكانيكي كمي جذبوي في الفضاء ذاته). ومع أن فاينمان طرح هذا الاحتمال، فإن أفضل نموذج حالي لتطور الكون، ويسمى «التضخم»، قائم على هذه الفكرة تحديدا. وقد قال مبتكر فكرة التضخم، آلان جوث، إنه في هذه الحالة، يكون الكون هو أكبر مثال على فكرة «المكافأة المجانية»!
والطريف، أن كونا ذا إجمالي طاقة جذبوية يساوي صفرا لا بد أن يكون مسطحا من الناحية المكانية؛ أي إنه عند المقاييس الهائلة يسلك سلوك الفضاء «الإقليدي» الطبيعي الذي يسير الضوء فيه في خطوط مستقيمة. وقد ظهرت الآن أدلة بالغة القوة على أن الكون مسطح من خلال القياسات المباشرة لهندسته بالمقاييس الكبرى، وهذا أحد أكثر التطورات إثارة في علم الكونيات في الآونة الأخيرة. بيد أنه في تاريخ مبكر عن ذلك يعود إلى عام 1963، طرح فاينمان هذه الفكرة باعتبارها احتمالا لأن وجود المجرات والعناقيد المجرية المترابطة عن طريق الجاذبية - وهي أكبر أجسام متحدة توجد في الكون، ويبلغ قطر الواحدة منها عشرات الملايين من السنوات الضوئية - يعني ضمنيا أن الطاقة الحركية الموجبة لتمدد الكون متوازنة تقريبا مع طاقة وضع جذبوية سالبة موجودة في تلك النظم. وكان على حق.
غير أنه كان هناك أحد تطبيقات حجج نظرية مجال الكم التي قال بها، والمتعلق بالجاذبية، بدا فيه مبتعدا عن حدسه الفيزيائي الطبيعي الرشيد. ففي بحثه في الديناميكا الكهربائية الكمية، أوضح هو وآخرون أن الجسيمات الافتراضية ليست موجودة بالفعل فحسب وإنما هي ضرورية كذلك من أجل فهم خصائص الذرات. ومن هنا فإن الفضاء الخاوي ليس خاويا وإنما هو مزيج فائر من الجسيمات الافتراضية. إن قوانين ميكانيكا الكم تقول لنا إنه كلما صغر المقياس الذي نقيس عنده الأشياء، ارتفعت الطاقة التي يمكن للجسيمات الافتراضية التي تتواجد لفترة وجيزة أن تمتلكها. وأشار فاينمان لهذه المقولة عندما ذكر أنه في الفراغ الصغير بداخل قبضة اليد المطبقة توجد جسيمات افتراضية ذات طاقة كافية لحضارتنا بالكامل. وللأسف استخدم مؤيدو هذا الرأي وأناس غريبو الأطوار هذه العبارة في التعبير عن رغبتهم في ابتكار أجهزة تستغل طاقة الفراغ في القيام بهذا الأمر تحديدا، وحل مشكلاتنا مع الطاقة.
وما نسيه فاينمان بطريقة ما، وهو ما أوضحه الفيزيائي الروسي ياكوف زيلدوفيتش عام 1967، أن كل أشكال الطاقة تتأثر بالجاذبية، حتى طاقة الفضاء الخاوي. فلو كان للفضاء الخاوي طاقة بالقدر الذي زعمه فاينمان، لكانت قوى التجاذب من الضخامة بحيث تفجر كوكب الأرض؛ لأنه وفقا للنسبية العامة، عندما توضع طاقة ما داخل فضاء خاو، فإن قوى التجاذب الناتجة تكون «تنافرية» وليست تجاذبية! ومن ثم فإن طاقة الفراغ الخاوي لا يمكن، في المتوسط، أن تكون قوتها أكبر من طاقة سائر المادة، وإلا فإن القوة التنافرية الناشئة عنها سوف تكون من الضخامة بحيث ما كان من الممكن للمجرات أن تتكون!
غير أن فاينمان لم يكن مخطئا تماما. فقد كان أكثر الاكتشافات التي أصابت العالم بالذهول خلال الخمسين عاما الماضية، إن لم يكن أكثر، ذلك الاكتشاف أن الفضاء الخاوي يحتوي بالفعل على طاقة، وهي طاقة أقل بكثير مما تخيل فاينمان، ولكنها كافية بحيث تهيمن على تمدد الكون، وتجعله يتسارع! وليس لدينا في الوقت الراهن أي فهم للسبب وراء ذلك، ولماذا يمتلك الفضاء الخاوي طاقة من الأساس ولماذا يكافئ مقدار هذه الطاقة إجمالي الطاقة التي تحويها جميع المجرات بالإضافة إلى مادة الكون. لعله أعظم ألغاز علم الفيزياء، بل ربما يكون أعظم الألغاز العلمية على الإطلاق.
وبتنحية خطأ فاينمان جانبا، لو أن فكرة التضخم - ويقصد بها فترة مبكرة من التمدد الأسي الذي أدى اليوم إلى كون مسطح وربما نتجت عنه كل التكوينات التي نرصدها الآن - صحيحة، فإن هناك مغزى مثيرا من ورائها يعود إلى حسابات فاينمان الأصلية. فإذا كانت الجرافيتونات جسيمات أولية مثل الفوتونات، فبإمكان المرء إجراء عملية حسابية تصل به إلى أن نفس العمليات الميكانيكية الكمية التي عملت أثناء التضخم ستنتج في نهاية المطاف تذبذبات كثافة المادة التي تكثفت مكونة كل المجرات والعناقيد المجرية التي نراها الآن، والتي من شأنها أن تولد أيضا خلفية من الجرافيتونات في الكون في مراحله الأولى، والتي كان سيصبح في الإمكان مشاهدتها اليوم كخلفية من موجات الجاذبية. وهذه بالفعل واحدة من التنبؤات الجوهرية للتضخم، وأحد مجالات الفيزياء التي بحثت فيها شخصيا. والشيء الأكثر إثارة في هذا الأمر هو أننا ربما نكون قادرين في القريب العاجل على اكتشاف تلك الخلفية بالأقمار الصناعية التي أرسلت كي تسبر غور البنية الكونية واسعة النطاق. فإذا رصدت تلك الخلفية، فسوف يكون معنى ذلك أن الحسابات التي أجراها فاينمان عندما قرر دراسة الجاذبية مثلها مثل أي ميدان نظري آخر تسمح بالخروج بتنبؤ يمكن مقارنته بالمشاهدات، ما يعني على أقل تقدير أنه لم يكن مضطرا للاعتذار الذي قدمه لأنه فكر في ظواهر شديدة الوعورة لا يفقهها سوى المتخصصين وغير قابلة للاكتشاف في مجال جاذبية الكم. •••
من الملائم أن نختتم هذا الفصل الذي تناول افتتان فاينمان بموضوع الجاذبية بالعودة من جديد إلى الاعتذار الذي بدأ به أول أبحاثه حول هذا الموضوع. كان فاينمان منجذبا إلى جاذبية الكم لأنها كانت خارج المسار الذي سبق طرقه من قبل. وبالمثل أدرك فاينمان أن الأمر كان كذلك لأن الحسابات الوحيدة التي يمكن للمرء إجراؤها من شأنها أن تؤدي إلى تنبؤات بآثار من المحتمل أن تظل مستعصية على القياس إلى الأبد؛ لأن الجاذبية قوة بالغة الضعف. وهكذا، بينما كان يستهل مناقشته الرسمية لآثار الكم الجذبوية، تراجع القهقرى وقال: «من الواضح إذن أن المشكلة التي نبحثها ليست هي المشكلة المقصودة؛ فالمشكلة المقصودة هي ما الذي يحدد حجم الجاذبية؟»
لم يكن ممكنا التصريح بعبارة أكثر دقة من تلك العبارة الأخيرة. فالغموض الحقيقي الذي كان يوجه علماء فيزياء الجسيمات النظرية هو لماذا كانت الجاذبية أضعف أربعين مرة من حيث حجمها من قوة الكهرومغناطيسية. الغالبية العظمى من الجهود الحالية نحو توحيد القوى، ومن بينها نظرية الأوتار، تهدف إلى الإجابة عن هذا السؤال المحير والأساسي عن الكون. ومن المحتمل ألا يتمكن العلماء من التوصل لفهم تام ومكتمل سواء للجاذبية أو لغيرها من القوى الأخرى إلى أن يأتي الوقت الذي يتمكنون فيه من إجابة هذا السؤال.
Unknown page