Richard Feynmann
ريتشارد فاينمان: حياته في العلم
Genres
حقق فاينمان الكثير بالفعل. ولكن هل كان باستطاعته إنجاز ما يفوق هذا بكثير لو أنه وافق بين الحين والآخر على بناء أبحاثه على أساس مسارات طرقت كثيرا من قبل وجربت بدلا من البحث عن مسارات جديدة؟ لن نعرف إجابة هذا السؤال أبدا. ومع ذلك فإن التقييم الأمين لإسهاماته العلمية اعتبارا من عام 1960 أو نحوه فصاعدا يوضح عدة اتجاهات استمرت في تكرار نفسها. فقد استكشف مجالا جديدا، مبتكرا مجموعة من التقنيات الرياضية المبتكرة، وكذا توصل لأفكار مستنيرة في علم الفيزياء. وكان من شأن تلك الإسهامات أن أدت في نهاية الأمر إلى المساعدة في تطورات محورية قام بها آخرون، وهو ما أدى بعد ذلك إلى مجموعة من الاكتشافات الرئيسية ووجه الغالبية العظمى من مجالات الفيزياء المعاصرة على الصعيدين النظري والتجريبي معا. وتباين هذا الجهد من العمل في مجال فيزياء المادة الكثيفة مرورا بمفاهيمنا حول التفاعلات الضعيفة والقوية، وحتى أساس العمل الذي يجري حاليا في مجال جاذبية الكم وحسابات الكم. لكنه هو نفسه لم يتوصل للاكتشافات أو ينل الجوائز. ومن هذا المنظور، واصل فاينمان دفع عجلة الفيزياء للأمام كما لم يفعل إلا القليل من العلماء المعاصرين، ليفتح بذلك مجالات جديدة للدراسة، ويولد رؤى جوهرية جديدة، ويخلق الاهتمام بأشياء لم يهتم بها أحد من قبل، غير أنه كان يميل دوما لقيادة الدفة من المؤخرة، أو من أحد الجانبين على أفضل تقدير.
ليس واضحا هل كان هذا الأمر يزعجه أم لا. فعلى الرغم من ميله الفطري إلى الاستعراض، كما ذكرت من قبل، فإنه كان في نهاية المطاف أكثر اهتماما بأن يكون على صواب من أن يكون المبتكر صاحب الفكرة الأصلية، ولو أن عمله أدى إلى أن كشف آخرون عن حقائق جديدة، كان من الممكن أن يظل متشككا في النتائج وقتا طويلا، لكن في نهاية الأمر كان الرضا الذي يستمده من كونه أنار طريقا مظلما يمنحه متعة عظيمة. وعن طريق التركيز على مشكلات عويصة لم يتطرق إليها التيار العلمي السائد، كان يزيد من فرص هذا التنوير. •••
تعلقت أولى غزوات فاينمان البعيدة عن المسار المطروق برغبته، التي بدأت حوالي عام 1960، في فهم كيف يمكن للمرء صياغة نظرية كم للجاذبية. كانت هناك أسباب قوية لاهتمامه هذا؛ أولا: في حين راوغت هذه النظرية جميع من فكروا فيها من قبل، حقق هو بالفعل نجاحا في ابتكار نظرية كم متماسكة الأركان خاصة بالكهرومغناطيسية في حين عجز الآخرون عن ذلك، وكان يعتقد أن خبرته بالديناميكا الكهربائية الكمية ربما أدت إلى شيء نافع. وثانيا: لطالما اعتبرت نظرية النسبية العامة لأينشتاين أعظم ابتكار علمي منذ زمن نيوتن. فهي على كل حال نظرية جديدة عن الجاذبية. غير أنه عندما يفكر المرء في سلوكها عند المقاييس الصغيرة، تبدو معيبة. وأول شخص يتمكن من تقويم تلك النظرية ما من شك أنه سينظر إليه باعتباره الوريث الشرعي لأينشتاين. غير أنه ربما كان أعظم شيء جذب فاينمان لذلك الموضوع أنه ما من شخص آخر، شخص ذي حيثية على الأقل، كان يفكر في هذه المسألة. وعلى حد قوله، في خطاب أرسله إلى زوجته من مؤتمر حول الجاذبية حضره في وارسو عام 1962: «هذا الميدان (بسبب عدم وجود تجارب فيه) ليس ميدانا نشطا، لذا فإن قلة من خيرة العلماء هم من يجرون أبحاثهم فيه.»
كانت تلك مبالغة منه إلى حد ما، غير أن الحقيقة هي أن دراسة النسبية العامة صارت ميدانا مستقلا بذاته منذ اكتشاف أينشتاين العظيم المتمثل في معادلات المجال الكلاسيكية عام 1915. ولما كانت النسبية العامة تعني ضمنا أن المادة والطاقة تؤثران في طبيعة الفضاء ذاته، مما يسمح له بالانحناء والتمدد والانكماش، وأن هذه الخاصية للفضاء تؤثر بعد ذلك على التطور اللاحق للمادة والطاقة، الذي يؤثر بدوره على الفضاء، وهكذا، فإن النظرية أكثر تعقيدا بكثير من الناحيتين الرياضية والفيزيائية من نظرية نيوتن للجاذبية.
أنجز قدر عظيم من العمل على إيجاد حلول رياضية لتلك المعادلات بهدف تفسير ظواهر متباينة من ديناميكا الكون وحتى سلوك اللحظات الأخيرة للنجوم أثناء نفاد وقودها النووي. كانت المعادلات معقدة بما يكفي، وكان تفسيرها الفيزيائي محيرا للغاية أيضا، فكان الأمر يتطلب عبقرية فذة وبراعة رياضية غير عادية، وظهر قطاع صغير من الخبراء لبحث تقنيات جديدة للتعامل مع تلك القضايا.
ولكي ندرك إلى أي مدى كان الأمر معقدا، فلا بد أن نعلم أن الأمر استغرق عشرين عاما كاملة والكثير من المنعطفات والطرق المسدودة والأخطاء، من بينها بعض الأخطاء الشهيرة التي ارتكبها أينشتاين نفسه، إلى أن أدرك العلماء أن النسبية العامة لا تتفق مع كون ثابت خالد، وهي الصورة العلمية المفضلة للكون في ذلك الحين. ولكي يكون الكون كذلك، حيث تحاط مجرتنا فيه بفضاء ثابت خاو، أضاف أينشتاين ثابته الكوني الشهير (الذي سماه فيما بعد أكبر أخطائه).
كان الفيزيائي الروسي ألكسندر فريدمان أول من كتب معادلات الكون المتمدد عام 1924، ولكن لسبب ما تعرضت تلك المعادلات لتجاهل واضح من مجتمع علماء الفيزياء. وأعاد القس والفيزيائي البلجيكي جورج لوميتر بصورة مستقلة اكتشاف المعادلات ونشرها في دورية علمية مغمورة عام 1927. ومع أن عمل لوميتر لم يحظ باهتمام عام، فما من شك أن أينشتاين علم به، فكتب إلى لوميتر يقول: «حساباتك صحيحة، لكن فيزياءك رديئة.»
لم يترجم عمل لوميتر إلى الإنجليزية كما لم يبدأ في نيل القبول العام، بما فيه قبول أينشتاين نفسه، إلا في الثلاثينيات، بعد مشاهدة إدوين هابل للكون المتمدد من خلال حركة المجرات البعيدة. في عام 1931 نشر لوميتر مقاله الشهير في مجلة «نيتشر» ليحدد فيه الخطوط العريضة لنموذجه المعروف باسم «الذرة البدائية»، الذي صار يعرف بعدها باسم نظرية «الانفجار العظيم». وأخيرا، في عام 1935، أثبت هاوارد روبرتسون وآرثر ووكر بصورة قاطعة أن الفضاء الوحيد الذي يتصف بالتناسق ووحدانية الخصائص (في ذلك الوقت كان العلماء قد أدركوا أن مجرتنا ليست المجرة الوحيدة في هذا الكون، وأن الفضاء متناسق إلى حد بعيد في جميع الاتجاهات وأن المجرات موجودة في كل مكان، وقدر عددها ب 400 مليار مجرة في كوننا القابل للرصد) هو ذلك الانفجار العظيم المتمدد الذي وصفه كل من فريدمان ولوميتر. وبعدها صارت نظرية الانفجار العظيم النموذج النظري المفضل في علم الكونيات، على الرغم من أن الأمر استغرق بالفعل ثلاثين عاما أخرى - بعد بدء فاينمان عمله - حتى استكشفت بجدية الآثار الفيزيائية الفعلية الناتجة عن الانفجار العظيم، ووضعها اكتشاف إشعاع الخلفية الميكروني الكوني على الخريطة التجريبية على نحو حاسم.
على الرغم من أن الأمر استغرق عقدين من الزمان لفهم الآثار الكونية للنسبية العامة، فإن أكثر المواقف المرتبطة بالجاذبية ألفة لنا، وهو الانهيار الذي يحدث بسبب الجاذبية للغلاف الكروي للمادة، ظل محيرا فترة أطول كثيرا، ولا يزال مستعصيا على الفهم بصورة كاملة.
في غضون أشهر قليلة من وضع أينشتاين لنظرية النسبية العامة، كتب الفيزيائي الألماني كارل شفارتزشيلد الحل الدقيق والصحيح الذي يصف طبيعة الفضاء ومجال الجاذبية الناتج خارج التوزيع الكروي للكتلة. غير أن المعادلات أخرجت نتائج ذات قيم لانهائية عند نصف القطر المحدد من مركز التوزيع. ويطلق على نصف القطر هذا الآن اسم «نصف قطر شفارتزشيلد». في ذلك التوقيت، لم يكن معنى قيمة ما لانهاية هذا مفهوما بعد، هل كانت مجرد خطأ في الحسابات الرياضية أم أنها انعكاس لظاهرة فيزيائية جديدة تحدث عند هذا المقياس.
Unknown page