Richard Feynmann
ريتشارد فاينمان: حياته في العلم
Genres
من ثم، لا يمكن لإلكترونين يدوران داخل ذرة هيليوم، على سبيل المثال، أن يوجدا على نحو طبيعي في نفس المدار تماما. لكن يمكنهما ذلك إذا كانا يدوران في اتجاهين مختلفين تماما بحيث لا يكونان في حالتين متطابقتين من حيث ميكانيكا الكم في هذا المدار. وإذا نظرنا، على سبيل المثال، إلى ثاني أخف عنصر بعد الهيليوم، وهو الليثيوم الذي تدور حول نواته ثلاثة إلكترونات، فسنجد أنه لا يوجد خيار للإلكترون الثالث، الذي ينبغي عليه حينئذ الدوران حول النواة في مدار مختلف، وهو مدار يفترض أنه ذو طاقة أعلى. إن علم الكيمياء كله يمكن فهمه في ضوء تطبيق هذه القاعدة البسيطة للتنبؤ بمستويات طاقة الإلكترونات في الذرات.
بالمثل، إذا قربنا ذرتين متماثلتين تماما إحداهما من الأخرى، فلن يكون هناك تنافر كهربي بين الإلكترونات ذات الشحنة السالبة في إحداهما وبين نظيراتها في الذرة الأخرى فحسب، بل يخبرنا مبدأ الاستبعاد لباولي أنه سيكون هناك أيضا تنافر إضافي لأنه لا يمكن أن يوجد إلكترونان في نفس الحيز في نفس الحالة الكمية. وهكذا فإن إلكترونات إحدى الذرات تدفع بعيدا عن إلكترونات الذرات المجاورة حتى لا تتداخل معا في نفس الموضع في نفس المدار. وتجتمع هاتان الظاهرتان الناجمتان عن مبدأ الاستبعاد لباولي لتحددا الخصائص الميكانيكية لجميع المواد التي تشكل العالم الذي نعرفه.
بعد ذلك بحث الفيزيائي الإيطالي إنريكو فيرمي في إحصائيات نظم العديد من الجسيمات المتطابقة ذات اللف المغزلي 1 / 2 مثل الإلكترونات، وأوضح أن مبدأ الاستبعاد يحكم بقوة سلوك العديد من حالات الجسيمات تلك. ونحن الآن نسمي جميع تلك الجسيمات ذات اللف المغزلي 1 / 2، و3 / 2، وغيرها «فيرميونات»، نسبة إلى فيرمي. أما الجسيمات الأخرى ذات قيم الدوران الكاملة، ومن بينها الفوتونات - كميات المجالات الكهرومغناطيسية ذات اللف المغزلي 1 - وكذلك الجسيمات التي لا توجد لها قيمة لف مغزلي على الإطلاق، فتسمى الآن «بوزونات»، نسبة إلى عالم الفيزياء الهندي ساتيندرا بوز، الذي وصف، هو وألبرت أينشتاين، السلوك الجمعي لتلك الجسيمات. •••
عن طريق «اللهو» - على حد تعبيره فيما بعد في الوصف الرياضي لجسيمات اللف المغزلي 1 / 2 - تمكن ديراك عام 1928 من اشتقاق معادلة تصف الإلكترونات، ويمكنها أن تفسر دورانها، وتحقق متطلبات السرعات النسبية وفقا لنظرية النسبية لأينشتاين. كان هذا إنجازا رائعا، كما كان بمنزلة نبوءة أكثر روعة؛ في الحقيقة، نبوءة من الروعة بحيث إن ديراك، ومعظم كبار العلماء الآخرين، لم يصدقوها. لقد تنبأت النظرية بأنه بالإضافة للإلكترونات، ينبغي أن توجد جسيمات مثل الإلكترونات تماما تمثل حلول طاقة سالبة للمعادلات. غير أنه لما كانت الطاقة السالبة تبدو غير مادية - إذ إن معادلات أينشتاين تربط دائما بين الطاقة الموجبة والكتلة - فإن تلك الجسيمات يجب فهمها بصورة مختلفة قليلا.
يذكرني التفسير الذي توصل إليه ديراك بنكتة قديمة سمعتها عن اثنين من علماء الرياضيات جالسين في إحدى حانات باريس ينظران إلى مبنى قريب. مع بدء تناولهما وجبة الغداء، شاهدا شخصين يدخلان المبنى. وأثناء التحلية، لاحظا خروج ثلاثة أشخاص. وعندها التفت واحد منهما للآخر وقال: «لو دخل شخص آخر هذا المبنى فسوف يكون خاليا من الناس!»
بالمثل، إذا فسرنا الطاقة السالبة على أنها طاقة أقل من الصفر، فإننا قد نتصور على نحو خاطئ أنه إذا كان الإلكترون يحمل طاقة موجبة، وإذا كانت حالة عدم وجود إلكترونات تعني طاقة تساوي صفرا، فإن حالة الطاقة السالبة تعني ببساطة وجود عدد أقل من الصفر من الإلكترونات. وهكذا فإن حالة طاقة سالبة مساوية بالضبط ومعاكسة في الوقت نفسه لطاقة إلكترون واحد توصف بأنها أقل بإلكترون واحد عن الحالة التي يوجد فيها عدد صفر من الإلكترونات.
مع أن هذه العبارة تبدو سليمة، فإنها من الناحية الفيزيائية سخيفة. فما الذي يعنيه فيزيائيا قولنا: «صفر إلكترونات ناقص إلكترون»؟ يأتي مفتاح الإجابة عن هذا السؤال من التفكير في الشحنة الكهربائية التي يحملها الإلكترون: فلما كانت الإلكترونات تحمل شحنة كهربائية سالبة، وكانت حالة «صفر إلكترونات» معناها شحنة كهربائية قيمتها صفر، فإن حالة الصفر ناقص واحد إلكترون يكون لها شحنة كهربائية موجبة. وللتعبير عن هذه الفكرة بطريقة مختلفة، نقول إن وجود عدد سالب من الإلكترونات يعادل وجود عدد موجب من الجسيمات موجبة الشحنة. ومن ثم فإن حالة الطاقة السالبة التي ظهرت في معادلة ديراك يمكن تفسيرها على أنها تعبير عن جسيم موجب الطاقة له شحنة تعادل شحنة الإلكترون ومضادة له.
غير أنه كانت هناك مشكلة كبرى واحدة على الأقل في هذا التفسير الغريب. فالطبيعة ليس بها سوى جسيم «واحد فقط» معروف أنه يحمل شحنة موجبة مساوية ومضادة لشحنة الإلكترون: إنه البروتون. غير أن البروتون لا يشبه الإلكترون على الإطلاق؛ فهو، على سبيل المثال، أثقل منه ألفي مرة.
في توقيت سابق، بعد أن اشتق ديراك هذه المعادلة مباشرة، أدرك وجود مشكلة أخرى مهمة في حالات الطاقة السلبية التي اكتشفها. تذكر أنه في ميكانيكا الكم يجري استكشاف جميع الأوضاع الممكنة مع تطور النظام. وعلى وجه التحديد، وعلى حد تعبيره في نظريته الجديدة: «يمكن أن تحدث عمليات تحول تتغير فيها طاقة الإلكترون من القيمة الموجبة إلى السالبة حتى في غياب أي مجال خارجي، وينبعث فائض الطاقة، المقدر ب 2ك س
2
Unknown page