Richard Feynmann
ريتشارد فاينمان: حياته في العلم
Genres
عالم الكم
لقد كنت دوما معنيا بالفيزياء. فلو أن فكرة ما بدت لي تافهة، أقول إنها تبدو تافهة، ولو بدت لي جيدة، أقول إنها تبدو جيدة.
ريتشارد فاينمان
كان فاينمان محظوظا أن التقى تيد ويلتون في عامه الدراسي الثاني بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا حين كان الاثنان - والوحيدان من طلاب العام الثاني - يحضران مقررا دراسيا متقدما لطلاب الدراسات العليا في الفيزياء النظرية. وباعتبارهما روحين متشابهتين، كان كل منهما يراجع الكتب الدراسية المتقدمة في الرياضيات في المكتبة، وبعد فترة وجيزة من محاولة أحدهما التفوق على الآخر، قررا التعاون معا «في النضال ضد فريق يبدو عدوانيا من الطلاب الآخرين الأكبر سنا وطلاب الدراسات العليا» في الصف الدراسي.
دفع كل منهما الآخر إلى آفاق جديدة، حيث راحا يتبادلان فيما بينهما دفتر ملاحظات كانا يدونان فيه معا بعض الحلول والأسئلة حول موضوعات تباينت من النسبية العامة إلى ميكانيكا الكم، وهي موضوعات تعلمها كل واحد منهما تعليما ذاتيا. ولم يؤد هذا فقط إلى تشجيع سعي فاينمان الحثيث الذي يبدو أنه لا يهدأ إلى اشتقاق كل شيء في علم الفيزياء بنفسه وبطريقته الخاصة، وإنما أدى أيضا إلى تعلم بعض الدروس العملية التي ظلت معه حتى نهاية حياته. وأحد هذه الدروس تحديدا يستحق التوقف عنده وتأمله. فقد حاول فاينمان وويلتون تحديد مستويات طاقة الإلكترونات في ذرة الهيدروجين عن طريق تعميم المعادلة القياسية لميكانيكا الكم - المسماة «معادلة شرودينجر» - لتضم نتائج النسبية الخاصة لأينشتاين. وأثناء قيامهما بهذا أعادا اكتشاف ما كان في واقع الأمر معادلة شهيرة هي «معادلة كلاين-جوردون». ومع الأسف، بعد أن حث ويلتون فاينمان على تطبيق تلك المعادلة بغرض فهم ذرة الهيدروجين، انتهت المحاولة إلى نتائج مخالفة تماما للنتائج التجريبية. وليس هذا مستغربا؛ لأنه كان من المعروف أن معادلة كلاين-جوردون ليست هي المعادلة المناسبة التي ينبغي استخدامها لوصف الإلكترونات النسبية، وهو ما أوضحه عالم الفيزياء النظرية البارع بول ديراك قبل عقد واحد فقط من الزمان، من خلال العمل الذي قاده للفوز بجائزة نوبل عن اشتقاق المعادلة الصحيحة.
وصف فاينمان تجربته بأنها درس «فظيع» ولكنه في غاية الأهمية ولم ينسه أبدا من وقتها. لقد تعلم ألا يعتمد على جمال نظرية رياضية أو على «شكلها المبهر»، وأن يقر بأن الاختبار الحقيقي للنظرية الجيدة هو هل يستطيع المرء «تطبيقها على الواقع» أم لا؛ والمقصود بالواقع هنا هو البيانات التجريبية.
ولم يكن فاينمان وويلتون يتعلمان كل شيء عن الفيزياء تعليما ذاتيا؛ فقد كانا يحضران المحاضرات أيضا. وخلال الفصل الدراسي الثاني من العام الثاني، أبهرا أستاذهما في مادة الفيزياء النظرية، فيليب مورس، إلى حد جعله يدعوهما - مع طالب ثالث - إلى دراسة ميكانيكا الكم معه في مجموعة دروس خصوصية يحضرونها يوما واحدا كل أسبوع في فترة ما بعد الظهر، وذلك خلال العام الدراسي الثالث بالمعهد. ثم دعاهما في وقت لاحق إلى بدء برنامج «بحث حقيقي» حسبا فيه خصائص الذرات الأكثر تعقيدا من الهيدروجين، وأثناء ذلك تعلما أيضا كيف يستخدمان الجيل الأول مما يسمى الآلات الحاسبة، وهي مهارة أخرى أفادت فاينمان كثيرا فيما بعد.
وبحلول السنة الدراسية الأخيرة له كطالب جامعي، كان فاينمان قد أتقن أغلب المناهج الجامعية ومناهج الدراسات العليا في الفيزياء، وصار متحمسا بالفعل لاحتمال امتهانه البحث العلمي واتخذ قرار المضي قدما وإكمال دراساته العليا. وفي الحقيقة، كان تطوره في الدراسة الجامعية مبهرا للغاية حتى إنه أثناء العام الدراسي قبل الأخير، أوصى قسم الفيزياء بمنحه درجة البكالوريوس بعد ثلاث سنوات بدلا من أربع. ورفضت الجامعة تلك التوصية، لذا، بدلا من ذلك، أكمل بحثه خلال السنة النهائية، وكتب بحثا عن ميكانيكا الكم للجزيئات نشر في دورية «فيزيكال ريفيو» ذات المكانة المرموقة، باعتباره بحثا عن الأشعة الكونية. أمضى أيضا بعض الوقت في تعزيز اهتمامه الأساسي بتطبيقات الفيزياء، وسجل اسمه لحضور مقررين دراسيين في علم المعادن والمختبرات - وهما مقرران أفاداه كثيرا فيما بعد أثناء عمله في لوس ألاموس - بل إنه ابتكر آلية مبدعة لقياس سرعات الأعمدة الدوارة المختلفة .
لم يكن الجميع مقتنعين أن فاينمان مستعد لاتخاذ الخطوة الكبيرة التالية في مسيرته التعليمية؛ إذ لم يكن أي من والديه قد أكمل تعليما جامعيا، ولم يكن ثمة أساس منطقي واضح لأن يكمل ابنهما ثلاث أو أربع سنوات دراسية أخرى بعد الحصول على شهادته الجامعية. زار والد ريتشارد، ميلفيل فاينمان، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في خريف عام 1938 للتحدث مع البروفسور مورس وسؤاله هل استكمال ابنه للدراسة أمر ذو قيمة، وهل ابنه جدير بذلك. وأجاب مورس بأن فاينمان الابن كان ألمع طالب جامعي درس له الفيزياء يوما، وأن استكمال دراساته العليا ليس فقط أمرا مهما وذا قيمة، وإنما هو ضروري أيضا إذا أراد فاينمان مواصلة حياته المهنية في مجال العلوم. وهكذا قضي الأمر.
كان فاينمان يفضل أن يستمر في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. غير أن أساتذة الفيزياء الحكماء كانوا يحثون طلابهم عموما، حتى أفضل هؤلاء الطلاب، على متابعة دراساتهم العليا في معاهد أخرى جديدة. فمن المهم للطلاب أن يتعرضوا في بداية حياتهم المهنية لنطاق واسع من الأساليب المختلفة في ممارسة العلم، ونقاط التركيز المختلفة؛ لأن قضاء حياتهم الأكاديمية كلها في معهد واحد من الممكن أن يكون مقيدا للعديد من الناس. لذا أصر المشرف الأول على أطروحة ريتشارد فاينمان في الدراسات العليا، جون سلاتر، على أن يلتحق فاينمان بالدراسات العليا في مكان آخر، وقال له: «ينبغي أن تتعرف على باقي العالم.»
Unknown page