Research on the Hadith of Muadh ibn Jabal in His Prayer with His People - within 'Athar al-Muallimi'
بحث في حديث معاذ بن جبل ﵁ في صلاته بقومه - ضمن «آثار المعلمي»
Investigator
محمد عزير شمس
Publisher
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٤٣٤ هـ
Genres
الرسالة السابعة
بحث في حديث معاذ بن جبل ﵁
في صلاته بقومه
16 / 241
(أقول: معنى هذا بنحو لفظه في رواية ابن عيينة في «صحيح مسلم» (^١) وغيره، وقد تقدم).
ففيه ــ كما نرى ــ شكاية التأخير، ثم التطويل، فأرشد النبي ﵌ معاذًا إلى إزالة شكواهم بأن يكتفي بأداء صلاته مع النبي ﵌ ويترك الإمامة، أو بأن يُخفِّف على قومه.
ولما كان التشديد عليهم من وجهين يحصل التخفيف أيضًا بأمرين: أن لا يصلي مع النبي ﵌، فتزول الشكوى بالتأخير والانتظار الشديد.
وفي رواية البزار: «لا تكن فتَّانًا تَفْتِن الناس، ارجعْ إليهم فصلِّ بهم قبل أن يناموا». «مجمع الزاوئد» (ص ١٩٥) (^٢).
ويقرأ أوساط السور لتزول شكوى التطويل.
فالتخفيف هنا مقابل التشديد الذي ذكروه، فيشمل التعجيل في الإتيان إلى الصلاة، والاختصار في القراءة.
وبمجموعهما يحصل الأمن من تفتين القوم.
قال عبد الرحمن: لا شك أن شكواهم ــ على ما في رواية ابن عيينة الصحيحة، ورواية معاذ بن الحارث المرسلة ــ كانت من أنه يتأخَّر ثم يُطوِّل. وهذا يحتمل أمرين:
الأول: أن تكون الشكوى من الجمع بين الأمرين، فلو تأخَّر وخفَّف، أو
_________
(^١) رقم (٤٦٥) من حديث جابر بن عبد الله في قصة معاذ بن جبل ﵁.
(^٢) (٢/ ١٣٣) من حديث جابر بن عبد الله. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح خلا معاذ بن عبد الله بن حبيب، وهو ثقة لا كلام فيه.
16 / 243
تقدَّم وطوَّل لم يشكُوا.
الثاني: أن تكون من كل منهما، حتى لو تقدَّم وطوَّل أو تأخَّر وخفَّف ما زالت شكواهم.
فإن بنينا على الأول كان معنى «إما أن تُصلِّي معي وإما أن تُخفِّف على قومك»: إما أن تصلِّي معي وتَدَعهم يقدِّمون غيرك فيصلي بهم قبل رجوعك، فيحصل التخفيف عنهم بالتعجيل، وإما أن تُخفِّف بهم إذا أبيت إلّا أن تصلي معي ثم تؤمَّهم.
وإن بنينا على الثاني كان المعنى: إما أن تصلِّي معي وتدعَهم يؤمُّهم غيرك فيعجِّل بهم ويخفِّف، وإما أن لا تصلِّي معي فتؤمَّهم فتعجِّل بهم وتخفِّف.
فأما الأول فواضح أنه ليس فيه المنع من أن يصلي معه ﵌ ثم يصلي بهم، وإنما فيه المنع من أن يصلِّي معه ﵌ ثم يطوِّل بهم.
وأما الثاني ففيه المنع من أن يصلِّي معه ﵌ ثم يصلي بهم، ولكن مغزى المنع إنما هو [...] (^١) التشديد عليهم بالتأخير. هذا واضح لا غبار عليه. وإذا كان كذلك فلا دلالة في العبارة المذكورة على المنع لمغزًى آخر.
وعليه، فسكوت النبي ﵌ حينئذٍ عن بيان امتناع أن يؤمَّ القوم في أداء فريضتهم من قد أدَّاها= دليل واضح على جواز ذلك.
فأما إذا فرضنا أن الفريضة إنما هي واحدة ولكن كانت تعاد، فإعادتها غير مفروضة، فليست المعادة بفريضة.
_________
(^١) كلمة غير واضحة، وكأنها: «استلزام».
16 / 244
على أن قصة أهل العوالي ــ مع إرسالها ــ قد قدّمنا أن ظاهر ذلك المرسل النهيُ عن أن يعيد ثم يعيد، بأن يصلِّيها أولًا ثم يعيدها ثم يعيدها، وهذا لا ينفع المانعين بل يضرهم بمفهومه؛ لأن النهي عن إعادتها مرتين يُفْهِم صفة الإذن بإعادتها مرة.
وقدمنا أن حديث ابن عمر يتفرد به حسين المعلم، وقد روي عنه بلفظ «لا تُعاد الصلاة في يوم واحد مرتين»، وهذا اللفظ ظاهره لفظ المرسل المذكور.
وروي أيضًا بلفظ: «لا صلاة مكتوبة في يوم مرتين»، وهذا اللفظ يحتمل احتمالًا ظاهرًا توجُّه النفي إلى كونها مكتوبةً مرتين، فيكون حاصله أن من صلى الفريضة مرة فقد أدّى ما عليه، ولا يُفرض عليه إعادتها.
فهذه الألفاظ مختلفة المعاني، ولا يُدرى أيّها قال النبي ﵌، فلا يصلح أن يحتجَّ بما يكون معنى [في] (^١) بعضها دون الباقي؛ لاحتمال أن ذلك اللفظ لم يقله النبي ﵌.
هذا، وقد تقدَّمتْ دلائل الإعادة. ومنها ما كان في آخر حياة النبي ﵌، ومنها ما أمر أصحابه أن يعملوا به من بعده.
وهَبْ أن حديث ابن عمر صحَّ بلفظ صريح في النهي عن الإعادة، فتاريخه مجهول، وغايته أن يكون عامًّا يُخصُّ منه ما قام الدليل على خصوصه، ومنه قصة معاذ وما في معناها.
وجعل بعضهم الناسخ هو ما جاء في مرسل معاذ بن الحارث: أن النبي ﵌ قال لمعاذ: «إما أن تصلِّي معي وإما أن تُخفِّف على قومك».
_________
(^١) كلمة غير واضحة، ولعلها كذلك.
16 / 245
وأجيب عن هذا بأنه مرسل لم يأتِ هو ولا معناه في شيء من الروايات الموصولة، حتى الرواية التي يُشبه سياقُه سياقَها. أعني رواية عبيد الله بن مِقْسم التي تقدمت عن أبي داود والبيهقي.
ومع ذلك، ففي معنى هذه العبارة نظر. حكى ابن حجر في «الفتح» (^١) عن الطحاوي أن معناها: «إما أن تصلِّي معي ولا تصلِّ بقومك، وإما أن تُخفِّف بقومك ولاتُصلِّ معي».
قال ابن حجر: «لمخالفِه أن يقول: إن التقدير: «إما أن تصلِّي معي فقط إذا لم تخفِّف، وإما أن تخفِّف بقومك فتصلِّي معي»، وهو أولى من تقديره؛ لما فيه من مقابلة التخفيف بترك التخفيف، لأنه المسؤول عنه المتنازع فيه».
وذكر بعض أئمة الحنفية بالهند أن هذا من باب ما حكاه الله ﷿ عن المشركين من قولهم: ﴿أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾ [سبأ: ٨]. فأصلُ مقصودهم: افترى أم لم يفترِ، ولكن أُقِيمَ ﴿أَمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾ مقام «أم لم يفترِ»؛ لاستلزام الجنون عدمَ الافتراء. فكذلك هنا المقصود: إما أن تصلّي معي، وإما أن لا تصلِّي معي، ولكن أقيم التخفيف بقومه مقام عدم الصلاة مع النبي ﵌؛ لأن التخفيف بقومه إنما يكون مع صلاته بهم، وصلاته بهم تستلزم عدم صلاته مع النبي ﵌؛ للمنع من أن يؤمَّ الناس في أدائهم فريضتَهم مَن قد أدَّاها.
أقول: وفَهْم هذا المعنى يتوقف على سبق العلم بالمنع المدَّعَى، على
_________
(^١) (٢/ ١٩٧).
16 / 246
أنه يردُّه أن سياق هذه الجملة هكذا: «يا معاذ بن جبل، لا تكن فتّانًا، إما أن تصلّي معي، وإما أن تخفِّف على قومك».
وذلك واضح في أن قوله: «إما أن تصلّي معي، وإما أن تخفِّف على قومك» إنما هو إرشاد إلى اجتناب ما تُخشَى منه الفتنة من التشديد.
وقد قال العلامة المحقق شبير أحمد العثماني الحنفي في «شرحه لصحيح مسلم» (^١): «والظاهر من مجموع الروايات أنهم يَشْكُون تأخير معاذ في مجيئه إلى الصلاة؛ لصلاته مع النبي ﵌، حتى كان ينام القوم ويشقّ عليهم الانتظار، ثم قراءته السور الطويلة، وهذا صريح في سياق أحمد (يعني في مرسل معاذ بن رفاعة)، وفي بعض روايات حديث الباب: فقال الرجل: يا رسول الله، إنك أخَّرتَ العشاء، وإن معاذًا صلَّى معك، ثم أمَّنا وافتتح سورة البقرة، وإنما نحن أصحابُ نواضِحَ نعملُ بأيدينا» اهـ. «تلخيص الحبير» (ص ١٢٦) (^٢).
وقرر العثماني النسخَ بأن أحكام الإمامة إنما تمَّتْ على لسان الشارع شيئًا فشيئًا، فقد كانوا أولًا إذا جاء الرجل والإمام في الصلاة سأل: كم قد صلَّوا؟، فيشار إليه بذلك، فيبدأ فيصلِّي ما سُبِق به، حتى يدرك الإمام فيوافقه فيما بقي، ثم نُسِخ ذلك وأُمِروا بالمتابعة.
وكانوا أولًا يقرؤون خلف الإمام، ثم نُسِخ ذلك، وجُعِلتْ قراءة الإمام قراءةً للمأموم.
_________
(^١) (٣/ ٤٣١).
(^٢) (٢/ ٤١) ط. النمنكاني.
16 / 247
قال: «فينبغي أن يُحمل كل ما جاء في الأحاديث مما ينافي مقتضى هذا الائتمام ــ ولم يُعلَم تاريخه ــ على ما قبل أوامر الائتمام ونواهي الاختلاف».
أقول: سيأتي إن شاء الله تعالى النظر فيما ذكروه من أوامر الائتمام ونواهي الاختلاف، وهناك يُنظَر فيما ذكره العثماني إن شاء الله تعالى.
فصل
ذهب بعض أئمة الحنفية بالهند (^١) إلى أن أصل القصة إنما هي أن معاذًا كان يصلِّي المغرب مع النبي ﵌، ثم يرجع إلى قومه فيصلّي بهم العشاء.
واستدل بما روي عن جابر: «كنا نصلِّي مع رسول الله ﵌ المغرب، ثم نأتي بني سلمةَ ونحن نُبصِر مواقعَ النَّبْل». «مسند» (٣/ ٣٨٢) (^٢).
فهذه عادة بني سلمة قومِ معاذ، فلا بد أن تكون عادة معاذ أيضًا، كيف وقد جاء ذلك نصًّا في حديث الترمذي (وقد مرَّ)، ولكن حُذِفَت كلمة المغرب من العبارة، فصارت هكذا ــ مثلًا ــ: «كان معاذ يصلي مع النبي ﵌ (المغربَ)، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم العشاء، فصلَّى بهم ليلةً فقرأ بالبقرة ...».
فلما حُذِفت كلمة «المغرب» توهَّم السامعون أن المراد: «كان معاذ يصلِّي مع النبي ﵌ العشاء، ثم يرجع إلى قومه فيصلِّي بهم العشاء». فلما توهَّموا هذا تصرَّفوا في الألفاظ، على قاعدة الرواية بالمعنى.
يقول عبد الرحمن: ليس فيما ذكره ما يَصلُح للتشبث، فإنه إن ثبت أن معاذًا كان يصلِّي المغرب مع النبي ﵌، ثم يرجع إلى قومه فيصلِّي بهم
_________
(^١) هو الشيخ أنور شاه الكشميري كما سبق (ص ٢٢٢).
(^٢) (٢٣/ ٣١٩) (١٥٠٩٦) ط. الرسالة. وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه (٣٣٧).
16 / 248
المغرب، كما فهمه الترمذي وتقدم بيانه، فهذا غير مخالف لعادة قومه، بل هو موافق لها، فإن ادعى أن بني سلمة كانوا كلهم يصلُّون المغرب مع النبي ﵌ طُولِب بالحجة.
فإن قال: قد ثبت في الصحيحين (^١) وغيرهما أن بني سلمة كانت منازلهم بعيدة من مسجد النبي ﵌، فأرادوا أن يتحوَّلوا إلى قرب المسجد، فقال النبي ﵌: «يا بني سلمة، ألا تحتسبون آثاركم!»، وفي رواية: «دياركم، تُحسب آثاركم».
فالجواب: أنه لا يلزم من ذلك أنهم كانوا بعد ذلك يحضرون كلهم. فإن زعمتَ ذلك فارفض الحديث من أصله، وقل: إنه لم يكن لبني سلمة مسجد، ولا صلَّى بهم معاذ قطُّ! !
فأما حديث جابر في حضورهم المغرب، فليس فيه أنهم كانوا يحضرون جميعًا، فالحق أنه كان منهم من يحضر مع النبي ﵌ في المغرب والعشاء وغيرهما، ومنهم من يتأخر فيصلُّون في مسجدهم، كما كان شأن غيرهم من العشائر في المدينة. فقد كان بالمدينة عدة مساجد يُصلَّى فيها، والأحاديث في ذلك معروفة.
هذا، وفي «الفتح» (^٢): «ولابن مردويه ... عن أبي نضرة عنه (يعني جابرًا) قال: كانت منازلنا بسَلْعٍ. ولا يعارض هذا ... لاحتمال أن تكون ديارهم كانت من وارء سَلْعٍ، وبين سَلْعٍ والمسجدِ قدرُ ميل».
_________
(^١) البخاري (٦٥٥) ومسلم (٦٦٥) من حديث أنس.
(^٢) (٢/ ١٤٠).
16 / 249
وعلى هذا، فكان معاذ ومن خفَّ من بني سلمة يشهدون المغرب مع النبي ﵌، ثم يأتون بني سلمة وهم يبصرون مواقع النَّبل، فيصلِّي معاذ بالذين تأخَّروا، ثم يتأخَّر في شغلٍ إن كان له، ثم يَخِفُّ هو وجماعة فيشهدون العشاء مع النبي ﵌، ثم يرجعون إلى بني سلمة، فيصلي معاذ العشاء بالذين تأخروا.
فإن قيل: وكيف يؤخِّر المتأخرون المغرب هذا التأخير؟
قلت: وأيُّ تأخيرٍ إذا كان معاذ يأتيهم والرامي يرى موقع سهمه؟ ! والظاهر أنه كان إذا اتفق أن يتأخر أكثر من ذلك قدَّموا غيره.
هذا كله إذا بنينا على أن معاذًا كان يصلِّي المغرب مع النبي ﵌، ثم يعود فيصلِّيها بقومه، كما اقتضاه حديث الترمذي وعمومُ غيره من الروايات، كما تقدم.
فأما إذا وافقنا مسلمًا على أن في حديث قتيبة وهمًا، وأن الصواب كما رواه أبو الربيع، وأخرجنا المغرب من عموم الروايات العامة، أو حملناها كلها على خصوص العشاء= فأيُّ مانع من أن يكون معاذ كان يعتاد عدم الرجوع إلى قومه بعد المغرب، أو أيُّ مانع من أن يكون كان يعود إليهم، ثم يرجع إلى مسجد النبي ﵌ لصلاة العشاء، ثم يعود إلى قومه؟ فقد كان معاذ شابًّا نشيطًا حريصًا على الخير، فلا وجه لأن نقيسه على أنفسنا في عجزنا وكسلنا. ولم يكن النبي ﵌ يعجِّل العشاء تعجيلنا.
ومع هذا، فإن ما ذهب إليه من توهيم الرواة يلزم منه وهمهم جميعًا، فإن الروايات على كثرتها ليس فيها رواية واحدة تحتمل ما قاله احتمالًا قريبًا. حتى رواية قتيبة عند الترمذي، فإن ظاهرها ما فهمه الترمذي، بل لا
16 / 250
تكاد تظهر فائدة إن قيل: كان معاذ يصلِّي مع النبي ﵌ المغرب، ثم يعود فيصلِّي بقومه العشاء.
ولو قيل هكذا لكان ظاهره أنه لم يكن بين صلاة النبي ﵌ المغرب وبين صلاة بني سلمة العشاء إلا مقدار المسافة! وهذا باطل اتفاقًا.
وهَبْ أن العالم لا يخشى على دينه من ارتكاب مثل هذه التأويلات، فينبغي له ــ على الأقل ــ أن يستحضر أن ارتكابه لها يُجرِّئ مخالفيه على ارتكاب مثلها في معارضته، ولاسيما المخالفين في أصول الدين من أهل البدع، بل والكفار أيضًا، فيحرِّفون السنن الصحيحة كيفما شاء لهم الهوى، فإذا قيل لهم: هذا تأويل بعيد، قالوا: إن في كلام أئمتكم تأويلاتٍ مثله أو أبعد منه.
هذه نفثةُ مصدورٍ، والله عليم بما في الصدور.
اللهم يا مقلِّب القلوب ثبِّتْ قلبي على دينك، واهْدِني لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك، واجعلْ هواي تبعًا لما جاء به نبيك ﵌.
16 / 251
فصل
اعتذر القائلون بمنع أن تؤدَّى الفريضة خلف من قد أدّاها بأمور:
منها: أن ما فعله معاذ كان بغير علم النبي ﵌، فلا حجة فيه.
والجواب: أننا إن أخذنا بمذهب جابر وأبي سعيد إذ قالا: «كنا نَعزِلُ والقرآن ينزل، لو كان شيئًا يُنهى عنه لنهى عنه القرآن». فإن هذا العذر واضح.
وتقرير مذهبهما في هذا: أنه كما تقرر عند أهل العلم أن تقرير النبي ﵌ حجة، فأولى منه تقرير الله ﷿ في الوقت الذي يكون فيه الواسطة ــ وهو الرسول ــ بين أظهر الناس.
ويؤيده ما ثبت من أن الصحابة كانوا مَنْهيِّين عن سؤال النبي ﵌، فإن ذلك يستلزم أن يكون مأذونًا لكلٍّ منهم أن يعمل بما يظهر له في الحكم، وإن كان عنده فيه تردُّد. وإنما ذلك لأن الله ﷿ رقيب عليهم، والرسول بين أظهرهم، فإذا علم الله ﷿ خطأهم في شيء أوحى إلى رسوله ما يبين به الحكم.
وسيأتي إن شاء الله تعالى النظر في ما ذكروا أنه حجة على ما ذهبوا إليه.
وإن لم نذهب هذا المذهب فإننا نقول: ظاهر الروايات أن صلاة معاذ بقومه الصلاةَ [التي] قد صلَّاها مع النبي ﵌ تكرر كثيرًا، وأن معاذًا كان كأنه الإمام الراتب لبني سلمة، وكان النبي ﵌ مما يتعاهد الأنصار في أمر دينهم، وكانوا مما لا يكادون يصنعون في دينهم إلا ما يثقون بصحته، والظاهر أنهم لم يكونوا يبنون مسجدًا ولا يُرتِّبون إمامًا إلا بعد استئذان النبي
16 / 252
﵌، وقد كان في بني سلمة رجال من أهل العلم والدين، ذُكر في «الفتح» (^١) عن ابن حزم: أنه كان فيهم ثلاثون عَقَبيًّا وأربعون بدريًّا.
ولا يحفظ عن غيرهم من الصحابة امتناع ذلك، بل قال منهم بالجواز: عمر، وابن عمر، وأبو [الدرداء وأنس وغيرهم] (^٢).
ومعاذ نفسه جاء عن النبي ﵌ أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام (^٣)، وأنه يأتي يوم القيامة أمام العلماءِ بِرَتْوةٍ (^٤)، وهو أول من سنَّ متابعة الإمام ... وهم في الصلاة، فقال: لا أراه على حال إلا كنت عليها، فدخل في الصلاة، ووافق النبيَّ ﵌ فيما هو فيه، فلما سلَّم النبي ﵌ قام معاذ فأتمَّ ما فاته، فقال النبي ﵌: «إن معاذًا قد سنَّ لكم» (^٥)، فأمرهم بمثله ...
هذا، وسيأتي ما يُعلَم منه أن النبي ﵌ قرَّر معاذًا وبني سلمة على ما كان منهم.
وقد ذهب جمعٌ من أهل العلم إلى أن قول الصحابي بعد النبي ﵌ حجة، فأولى منه قوله في حياة النبي ﵌؛ لأنه يكون أبلغ تحريًا واحتياطًا، كما لا يخفى. هذا مع انضمامه إلى ما تقدم.
_________
(^١) (٢/ ١٩٦).
(^٢) كلمات لم تظهر في التصوير. والمثبت من «الفتح».
(^٣) أخرجه الترمذي (٣٧٩٠، ٣٧٩١) من حديث أنس.
(^٤) أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (٥٨/ ٤٠٦) من حديث أبي عون الثقفي مرسلًا.
(^٥) أخرجه أحمد (٢٢١٢٤) وأبو داود (٥٠٦) وغيرهما من حديث معاذ.
16 / 253
وسيأتي إن شاء الله تعالى النظر فيما ذكروا أنه يُعارِض ذلك.
هذا، وفي هذا الحديث كرواية ابن عيينة وغيره أن القوم أخبروا النبي ﵌، ثم يصلِّي بهم، ولم يثبت أن النبي ﵌ أنكر عليهم ذلك، بل ظاهر أكثر الروايات أنه أقرَّهم على فعلهم، وإنما أنكر على معاذ التطويل. وما أوردوه مما يعتبر أنه إنكار، وهو ما في رواية ... (^١) لم يصح، [بل هو] مرسل، ولم يقع في الرواية المتصلة، حتى رواية عبيد بن مقسم التي يُشبِه سياقها سياقَ ذلك المرسل، ولو صح ذلك القول فلا دلالة فيه على المدعَى، كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
ومنها: أنه يحتمل أن يكون هذا كان في الوقت الذي كانت الفريضة فيه تُصلَّى مرتين. قاله الطحاوي. قال في «الفتح» (^٢): «أي فيكون منسوخًا»، وقال: «تعقبه ابن دقيق العيد بأنه يتضمن إثبات النسخ بالاحتمال، وهو لا يسوغ، وبأنه يلزمه إقامة الدليل على ما ادعاه من إعادة الفريضة».
ثم ذكر أن الطحاوي ذكر دليله، وهو حديث ابن عمر مرفوعًا: «لا تُصلُّوا الصلاةَ في اليوم مرتين»، ومرسل خالد بن أيمن، وصدقة بن المسيب في قصة العوالي، وقد ذكرتها فيما تقدم.
أقول: الظاهر أن ابن دقيق العيد إنما طالب بالدليل على أن الفريضة كانت تُعاد فريضةً، أي أنه كان مفروضًا صلاتها مرتين، فإن هذا هو الذي ينفع الطحاوي.
_________
(^١) هنا كلمات غير واضحة.
(^٢) (٢/ ١٩٦).
16 / 254
فيقال: كان معاذ يصلِّي مع النبي ﵌، وهي فريضة عليه، ثم يعيدها بقومه وهي فريضة عليه أيضًا. ولا دلالة في حديث ابن عمر وقصة أهل العالية على هذا.
16 / 255