Research and Articles in Language and Literature and Text Evaluation (Articles by Muhammad Ajmal al-Islahi)
بحوث ومقالات في اللغة والأدب وتقويم النصوص (مقالات محمد أجمل الإصلاحي)
Publisher
دار الغرب الإسلامي
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٤٢٨ هـ - ٢٠٠٧ م.
Publisher Location
بيروت
Genres
بسم الله الرحمن الرحيم
بين يدي الكتاب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد، فهذه طائفة من البحوث والمقالات ألقيت في ندوات علمية أو نشرت في بعض المجلات والملحقات التراثية. وقد اقترح عليّ قبل سنوات شيخنا الحاج الحبيب اللمسي صاحب دار الغرب الإسلامي أن أجمعها في كتاب ليتيسر الاستفادة منها.
وذلك لأن الموضوعات التي تنشر في المجلات والدورات تختفي بعد مدة من الزمن عن أنظار الباحثين، فيصعب البحث عنها والرجوع إليها على الذين قد عاصروا صدورها واطلعوا عليها، فضلًا عن ناشئة الدارسين الذين لم يدركوها فغاب عنهم أمرها البتة.
ثمّ إذا كانت الكتابة عبارة عن جمع وتلخيص وإعادة ترتيب، فخطبها هيّن، ولا يضير الدارس عدم وقوفه عليها، ولكن الضير كل الضير في اختفاء البحوث والمقالات التي تضيف شيئًا جديدًا إلى العلم، بما فيها من فكرة بديعة، أو كشف عن مجهول، أو استدراك فائت، أو تصحيح غلط قديم، أو تقويم نصّ
1 / 5
منآد، أو حلّ مشكلة عويصة، أو فصل خلاف متشعب، وما أشبه ذلك؛ ولا ريب أن بقاء مثل هذه الكتابات مدفونة في بطون المجلات ظلم على طلبه العلم.
وعلى تأييدي لكلام الشيخ وصوابه الظاهر، لم أنشط للعمل على اقتراحه، لأن ما نشرته لا يرقى إلى مستوى الكتابات العالية التي أشار إليها، فلم أزل مترددًا إلى أن زارني يومًا صديق فاضل يحمل رسالته العلمية التي نال عليها شهادة الدكتوراه، وهو يريد تقديمها إلى إحدى دور النشر، فرغب إليّ أن أنظر فيها نظرةً قبل نشرها. فرأيته في بعض فصوله قد خصّ فقرة كاملة بكتاب مطبوع باسم "الموضح في التفسير" لأبي النصر الحدادي. وقد سبق أن نشرت سنة ١٤١٢ هـ مقالًا في ملحق التراث بصحيفة المدينة كشفت فيه عن حقيقة هذا الكتب المزعوم، وبينت أن ناشره وقع على رسالة لمؤلف مجهول جرّد فيها شواهد كتاب "الموضح لعلم القرآن" للحدادي، كما صرّح بذلك في خاتمتها، فأضاف إليها من عنده أسماء السور ونصوص الآيات التي استشهد عليها المؤلف بتلك الآيات، وسماه كما شاء: "الموضح في التفسير"! ولما قصصت ذلك على الباحث الفاضل هاله الأمر، ثم تعجب كيف فاته المقال المذكور مع متابعته لما كان ينشر في ملحق التراث.
وهنالك غيّرت رأيي، وقررت أن أهيئ بضاعتي، وأزجيها - على علاّتها - إلى إخواتي الباحثين والدارسين، لينتفعوا بما فيها من الحق والصواب، وهم أحقّاء بمعرفة سمينها من غثّها ومتينها من رثّها.
وتشتمل هذه المجموعة على أربعة عشر موضوعًا، ولكن معظم صفحاتها قد استأثرت بها قراءات نقدية لكتب من التراث اللغوي والأدبي، توفّر على تحقيقها أساتذة أفاضل. ومنها دراسة مبسوطة دارت حول تحقيق كتاب "إصلاح ما غلط فيه أبو عبد الله النمري في تفسير معاني أبيات الحماسة "للأسود
1 / 6
الغندجاني، من مطبوعات معهد المخطوطات العربية بالكويت، ونشرت سنة ١٤١٠ هـ بعنوان "إصلاح الإصلاح" في ثلاثة أجزاء من مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق. وقد استطالت الدراسة لأنها لم تعقد على نماذج مختارة من المآخذ، بل عنيت بإصلاح الخلل الواقع في الكتاب كلّه، وحلّ جميع مشكلات النصّ التي قد تجاوزها المحقق الفاضل. وقد استغرق بعض المباحث التي انطوت عليها أكثر من ستّ صفحات أو سبع من صفحات المجلة. وقد بلغني فيما بعد أن علاّمة الشام الأستاذ أحمد راتب النفاخ ﵀ كان يثني على هذا النقد، وأنّ لجنة المجلة قد رأت اختصارها، ولكنّ الأستاذ أصرّ على نشره برمّته.
ومن القراءات التراثية أيضًا: قراءة كتاب المجرد لكراع النمل، وشعر ابن وكيع التنّيسي، وكتاب المجموع اللفيفي للقاضي أمين الدولة الأفطسي. وهنا أ؛ ب أن أوضح أني لم أقصد إلى نقد هذه الكتب أو غيرها ابتداء، وإنما أقبلت على قراءتها مستفيدًا مستمتعًا فحسب، وما جاء نقدها إلا اتفاقًا. أضف إلى ذلك أن الكتابة نفسها لا تستهويني، بل كثيرًا ما أجدني أنفر منها نفورًا، وإذا دُفعت إليها فكأنما أحمل نفسي على مركب صعب، وبلأي ما يسلس قيادها. ولكني شفغت بالقراءة، فهي الهمّ والهوى، وغرضي منها الفائدة والمتعة لا غير. بيد أن هذا التراث العظيم الذي آل إلينا أمانة ثقيلة تنوء بالعصبة أولي القوة، ولا يمكن أداؤها على الوجه المطلوب إلا إذا تظاهرت عليه جهود المحقق القدير والناقد البصير، بل يجب على كل قارئ لكتاب من كتب التراث، إذا فتح الله عليه بشيء مما غاب عن ناشره أن ينبهه عليه. وقد عبر عن هذا المعنى أحد شيوخ التحقيق في عصرنا - وهو الأستاذ السيد أحمد صقر ﵀ بكلمة بليغة ينبغي أن تكون دائمًا نصب أعيننا، وقد ختم بها مقدمة تحقيقه لكتاب الموازنة للآمدي، وأسوقها هنا بتمامها لنفاستها وأهميتها. قال لله درّه:
1 / 7
"وإني - على نهجي الذي انتهجت منذ أول كتاب نشرت - أدعو النقاد إلى إظهاري على أوهامي فيها، وتبيين ما دقّ عن فهمي من معانيها، أو ندّ عن نظري من مبانيها؛ وفاء بحق العلم عليهم، وأداء لحق النصيحة فيه، لأبلغ بالكتاب فيما يستأنف من الزمان، أمثل ما أستطيع من الصحة والإتقان. والنشر فن خفي المسالك، عظيم المزالق، جمّ المصاعب، كثير المضايق؛ وشواغل الفكر فيه متواترة، ومتاعب البال وافرة، ومبهضات العقل غامرة، وجهود الفرد في مضمارها قاصرة؛ يؤودها حفظ الصواب في سائر نصوص الكتاب، ويعجزها ضبط شوارد الأخطاء ورجعها جميعا إلى أصلها؛ فيأتي الناقد وهو موفور الجمام فيقصد قصدها، ويسهل عليها قنصها. ومن أجل ذلك قلت - وما أزال أقول -: إنه يجب على كل قارئ للكتب القديمة أن يعاون ناشريها يذكر ما يراه فيها من أخطاء، لتخلص من شوائب التحريف والتصحيف الذي منيت به، وتخرج للناس صحيحة كاملة".
وقد صدرت في نظراتي في كتب التراث عن هذا الأصل الذي ذكره الشيخ، غير أنها نظرات قارئ لا نظرات ناقد كما أسلفت، فإنني في خلال قراءة الكتاب أشير إلى الفوائد التي تمرّ بي، وإذا عنّت لي ملحوظة قيّدتها في حاشيته، وقد تقتضي كثرة المآخذ أو أهميتها أن أنشرها، مشاركةً للمحقق في أداء الأمانة، وشكرًا له على ما استفدت واستمتعت من الجهد الذي بذله في إخراج الكتاب، ونصحًا للدارسين؛ ولكن كثيرًا ما يغلب عليّ طبعي الذي أشرت إليه، فتبقى تعليقاتي زمنًا يطول أو يقصر، حتى يبعث باعث قويّ على إظهارها.
ومن بحوث هذه المجموعة بحث عن كتاب الجماهر في معرفة الجواهر للعالم العبقري المشهور أبي الريحان البيروني. وهو أقدم محتويات الكتاب، فقد تلقيت دعوة من "معهد أبي الكلام آزاد للبحوث" في حيدراباد الدكن
1 / 8
للمشاركة في المهرجان الذي عقده سنة ١٩٧٥ م (١٣٩٥ هـ) بمناسبة مرور ألف سنة على وفاة البيروتي، فأعددت هذا البحث بعنوان "جولة أدبية في كتاب الجماهير لأبي الريحان البيروني"، وأرسلته إلى المعهد، ولم أتمكن من الحضور في المهرجان وكان البحث الوحيد الذي قدّم فيه باللغة العربية. ولم أحفل بنشره حتى قدمت المدينة المنورة سنة ١٤٠٢ هـ، فعرضته على الدكتور شكري فيصل ﵀، فغّير عنوانه إلى "مواقف أدبية ولغوية في كتاب .... " مما أضفى على البحث وقارًا من حيث عنوانه على الأقل، ثمّ بعثت به إلى مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، فنشر فيها. وقد ضممته إلى هذه المجموعة لأنه ينتمي إلى مرحلة عزيزة من العمر، إذ كتبته قبل أن ألتحق بالدراسات العليا في جامعة عليكره. ولا يخلو مع ذلك من فوائد، وأقربها كلمة للبيروني نقلتها من كتابه "الصيدنة"، وهي قوله: "الهجو بالعربية أحبّ إليّ من المدح بالفارسية". وقد هاتفني الدكتور شكري ﵀ ذات يوم من أجل هذه الكلمة، ليتحقق من نصّها ويستشهد بها في محاضرة له عن اللغة العربية ألقاها في النادي الأدبي بالمدينة المنورة.
وفي المجموعة عدة مقالات نشرت في ملحق التراث بصحيفة المدينة ثم بصحيفة البلاد، الذي كان يشرف عليه الصديق الكريم الأستاذ الدكتور محمد يعقوب التركستاني، ولولا حثّه المتصل على المشاركة في الملحق المذكور ما ظهرت تلكم المقالات المعدودات. والذي وصل حبلي بحبله هو أستاذي وصديقي الدكتور ف عبد الرحيم الذي صحبته نحو اثني عشر عامًا في مدينة النبي ﵊، وأفدت كثيرًا من علمه الغزير. فللصديقين الجليلين خالص الشكر والتحية والتقدير. أما الحاج الحبيب اللمسي فله منّتان على هذه المجموعة، إذ هو الذي اقترح إعدادها، ثم هو الذي تولّى إصدارها ضمن مطبوعات دار الغرب الإسلامي، فجزاه الله خيرًا، وشكر مساعيه في خدمة العلم وأهل العلم.
1 / 9
ربِّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ، وافسح اللهّم في أجلهما، وهوِّن عليهما من وطأة الكبر، واحفظهما من سطوة الأسقام والعلل؛ وأصلح لي ذريّتي، وارزقهم العلم النافع والعمل الصالح. وصلّ اللهمّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
الرياض
محمد أجمل أيوب الإصلاحي
١٨ صفر ١٤٢٨ هـ
1 / 10
كتاب جمل الغرائب للنيسابوري
وأهميته في علم غريب الحديث (١)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين، نبينا محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وأصحابه الغر الميامين، وعلى من تمسّك بسنته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن أشرف العلوم ما وضع لخدمة كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وقد اعتنى علماء الإسلام بهذين الأصلين اعتناء عظيمًا لا نظير له في تاريخ الأمم. ومن أوائل فنون العلم التي نشأت لخدمة القرآن الكريم ما سمي بفن غريب القرآن. ورديفه من أنواع علم الحديث دعي بفن غريب الحديث. والمقصود بالغريب هنا ما وقع في متن الحديث من لفظ أو أسلوب خفي معناه وأشكل لسبب من الأسباب، "وهو فن مهم يقبح جهله بأهل الحديث خاصة ثم أهل العلم عامة، والخوض فيه ليس بالهين، والخائص فيه حقيق بالتحرّي جدير بالتوقّي" كما قال ابن الصلاح (٦٤٣ هـ)، ونقل أن الإمام أحمد بن حنبل ﵀ سئل عن حرف من غريب الحديث، فقال: "سلوا أصحاب الغريب، فإني
_________
(١) قدّم مختصر منه إلى في ندوة "عناية المملكة العربية السعودية بالسنة والسيرة النبوية" التي عقدها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنّورة في ١٥ - ١٧/ ٣/١٤٢٥ الموافق ٤ - ٦/ ٥/٢٠٠٤ م.
1 / 11
أكره أن أتكلم في قول رسول الله ﷺ بالظن، فأخطئ" (١).
وكان نشوء هذا الفن في القرن الثاني الهجري على أيدي علماء اللغة ثم اضطلع به العلماء الذين كانوا بجانب تمكّنهم من اللغة مشاركين في علم الحديث والفقه، فأبدعوا في التأليف فيه، وكان أولهم أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي (٢٢٤ هـ). ثم تتابعت المصنّفات في هذا الفن، حتى أربى عددها - فيما بلغه علمنا - على مائة مصنف.
وقد وصل إلينا معظم أمهات هذا الفن - على نقص في بعضها - وطبع، وهناك كتب لا تزال مخطوطة، ومنها كتب جمل الغرائب لبيان الحق محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري من علماء القرن السادس الهجري.
ليس كتاب النيسابوري هذا من أصول هذا الفن، ولكن له مزية على نظائره من كتب المتأخرين. وهو أن مؤلفه استقى مادته من أصول كثيرة نص عليها في مقدمته. ومنها كتب الأوائل التي ضاعت فيما ضاع من تراث الإسلام، نحو كتب النضر بن شميل (٢٠٣ هـ) وقطرب (٢٠٦ هـ) وأبي عبيدة (٢١٠ هـ) والأصمعي (٢١٦ هـ) وأبي سعيد الضرير. ومن موارده كتاب لم أر من ذكره أو اقتبس منه ولا وقفت على ترجمة مؤلفه، وهو كتاب الأغفال لأبي بكر الحنبلي (٢). وقد وضع النيسابوري رموزًا لموارده ليثبتها قبل نقل الحديث وتفسيره منها. فهذا يعين على معرفة المادة التي احتوت عليها تلك الكتب الضائعة.
ثم رتّب النيسابوري كتابه على الموضوعات مثل الجوامع والمسانيد من كتب الحديث. وهو منهج لم يسبقه فيه إلا أبو عدنان السلمي من أصحاب أبي زيد الأنصاري (٢١٥ هـ) إذ رتّب كتابه على أبواب السنن.
_________
(١) علوم الحديث: ٢٧٢.
(٢) ومن كتابنا هذا نقل حاجي خليفة عنوان الكتاب واسم مؤلفه في كشف الظنون: ١٣١.
1 / 12
ولهاتين المزيتين - ولا سيما الأولى - رأيت أن أعرّف بالكتاب المذكور في هذا البحث الذي أقدمه في المحور الثاني (الموضوع الحادي عشر) من محاور الندوة التي يعقدها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوّرة عن السنة والسيرة النبوية.
وقد انتظم هذا البحث تمهيدًا وفصلين: فالتمهيد يشتمل على ذرو من القول في نشأة فن غريب الحديث، ومصنّفاته المشهورة ومناهجها مع الإلماع إلى أهمّ ما طبع منها وما لا يزال مخطوطًا. والفصل الأول في سيرة بيان الحق النيسابوري ومؤلفاته. وقد ترجم له ياقوت ترجمة مقتضبة وعليها اعتمد السيوطي وغيره، فأثبتّها أولًا، ثم أضفت إليها بعض المعلومات المستخرجة من كتب النيسابوري وغيرها. وناقشت ما زعمه بعضهم من أنه ارتحل إلى حلب ودرس في المدرسة الحلاوية، وبينّت الخلط الذي بني عليه هذا الزعم. وتحدّثت في الفصل الثاني عن الغرض من تأليف كتاب جمل الغرائب، وموارده وترتيبه، ومنهجه في التلخيص والتفسير، وبعض المآخذ عليه.
وليس هذا البحث دراسة لكتاب جمل الغرائب، وإنما قصد به التعريف والتنويه. وليس بين يديّ عند إعداده إلا قسم من نص الكتاب مطبوعًا على الحاسوب، بعث به إليّ من لندن أخي الدكتور محمد راشد أيوب الإصلاحي الذي يحقّقه عن ثلاث نسخ، فجزاه الله أحسن الجزاء.
وإني لشاكر لمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة على أن شرفني بدعوتي للمشاركة في هذه الندوة التي تقام في مدينة رسولنا ﷺ، ويتحدث فيها المتحدثون عن سنته السنية وسيرته العطرة، فما أشرف المقام، وما أجلّ الموضوع، وما أطيب الحديث، وما أسعد المتحدثينّ.
أسأل الله ﷿ أن يتقبّل أعمالنا، ويجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يحيينا ويميتنا على طاعته وطاعة رسوله ﷺ.
1 / 13
التمهيد
لمحات عن علم غريب الحديث
متى نشأ علم غريب الحديث؟ وكيف كانت عناية أهل العلم به؟ وما أهمّ المصنّفات فيه، وما وجوه التماثل والتفاضل فيما بينها؟ قد أبدع القول في هذا الموضوع من علمائنا المتقدمين: أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي (٣٨٨ هـ) ثم مجد الدين ابن الأثير الجزري (٦٠٦ هـ)، فكلاهما كتب في مقدمة غريبه فصولًا بليغة أرّخ فيها علم غريب الحديث ذاكرًا أهم الكتب التي ألفت فيه إلى زمنه، مبينًا عن مراتبها وكاشفًا عن خصائصها التي ينفرد بها بعضها عن بعض.
أما الباحثون المعاصرون، فلعلّ أول من أرّخ هذا العلم منهم هو الدكتور حسين نصّار الذي عقد له فصلًا في كتابه "المعجم العربي - نشأته وتطوّره" استغرق نحو ١٣ صفحة (١)، ومن المعلوم أن الكتاب المذكور أصله رسالة علمية نوقشت في ٢٣/ ٦/١٣٥٦ م، وطبعت لأول مرة سنة ١٩٥٦ م.
ثم لما عني الدكتور شاكر الفحّام بتحقيق كتاب الدلائل في غريب الحديث للعوفي (٣٠٢ هـ) قدم بين يديه سلسلة مقالات نفيسة ضافية نشرها في سنتي ١٩٧٥ و١٩٧٦ م في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، ودرس فيها تاريخ هذا العلم إلى عهد العوفي ومخطوطات كتابه دراسة بارعة متقنة.
وكتب الغريب التي نشرت، تصدرتها جميعًا مقدّمات عرض فيها محققّوها
_________
(١) المعجم العربي ١: ٤٢ - ٥٤.
1 / 14
هذا الموضوع حسب طرائقهم في الاختصار أو الإطناب. ثم كتبت فيه بعض الرسائل الجامعية (١).
ومع كل ذلك، فإن علم غريب الحديث لخليق بأن تقدم دراسة تاريخية له في هذه الندوة الكريمة مع عرض شامل لمصنّفاته، ما وصل منها وما لم يصل، وما طبع منها وما لم يطبع. ولعلّ أحد الباحثين الأفاضل المشاركين في هذه الندوة سينهض بتلكم الدراسة. أما هذا البحث الذي عقد للتعريف بكتاب واحد من كتب غريب الحديث المخطوطة، فلا موضع فيه للتفصيل، فأكتفي هنا بكلمة مقتضبة تكون مدخلًا إلى موضوع البحث.
(١) نشأة علم غريب الحديث
ظهرت الكتب الأولى في غريب الحديث في القرن الثاني الهجري، ولكن من السابق إلى التأليف فيه؟ لم يجزم في ذلك أبو محمد عبد الله بن جعفر المعروف بابن درستويه (٣٤٧ هـ) حينما تحدّث عن كتب غريب الحديث فقال:
"وكتاب غريب الحديث أول من عمله أبو عبيدة معمر بن المثنى، وقطرب، والأخفش، والنضر بن شميل، ولم يأتوا بالأسانيد، وعمل أبو عدنان النحوي البصري كتابًا في غريب الحديث ذكر فيه الأسانيد ... فجمع أبو عبيد عامة ما في كتبهم ... " (٢).
فجعل ابن درستويه العلماء الأربعة بل الخمسة في قرن واحد، ولم يصرح بسبق بعضهم بعضًا، وإن استهل كلامه بذكر أبي عبيدة معمر بن المثنى؛ خلافًا
_________
(١) ومنها رسالة ماجستير بعنوان "دراسات في غريب الحديث" أعدّها الأخ الأستاذ بدر الزمان النيبالي في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنوّرة سنة ١٤٠٧ هـ. ومنها رسالة أعدها إبراهيم يوسف في دار العلوم بالقاهرة بعنوان "غريب الحديث حتى نهاية القرن السادس"، ذكرها محقق غريب الحربي في مراجعه ٣: ١٤٠٩.
(٢) تاريخ بغداد ١٢: ٤٠٣، وانظر الإنباه ٣: ١٤.
1 / 15
لحديثه فيما بعد عن غريب القرآن إذا صرح فيه بأن "أول من صنّف في ذلك من أهل اللغة أبو عبيدة معمر بن المثنى، قم قطرب بن المستنير، ثم الأخفش ... ". ولكن الحافظ أبا عبد الله الحاكم النيسابوري (٤٠٥ هـ) قال جازمًا: "فأول من صنّف الغريب في الإسلام النضر بن شميل له فيه كتاب، هو عندنا بلا سماع. ثم صنّف فيه أبو عبيد القاسم بن سلام" (١). نقل أبو عمرو ابن الصلاح (٦٤٣ هـ) قول الحاكم في مقدّمته، ثم عقّب عليه: "ومنهم من خالفه، فقال: أول من صنّف فيه أبو عبيدة معمر بن المثنى" (٢).
وقد أيّد شمس الدين السخاوي (٩٠٢ هـ) في فتح المغيث قول الحاكم، فقال: "وهو الظاهر"، واستدلّ بأن النضر بن شميل "مات في سنة ثلاث وثمانين ومائة" ثم أكدّ ذلك حينما نعى علي ابن الأثير (٦٠٦ هـ) والمحب الطبري (٦٩٤ هـ) ذهابهما إلى القول الثاني "مع أن وفاته - يعني أبا عبيدة - كانت في سنة عشر ومائتين بعد الأول - يعني النضر - بسبع وعشرين عامًا (٣).
ولا ريب أن ما قاله السخاوي وهم محض، فلا خلاف بين المؤرّخين أن النضر بن شميل توفّي سنة ٢٠٣ هـ وقيل سنة ٢٠٤ هـ (٤). ولا حقيقة لهذا القيل إلا أنه "مات في آخر يوم من ذي الحجة سنة ثلاث ومائتين، ودفن في أول
_________
(١) معرفة علوم الحديث: ٨٨. وعليه اقتصر السيوطي في كتاب الوسائل في مسامرة الأوائل: ١٠١.
(٢) علوم الحديث: ٣٧٢. لخص السيوطي في آخر المزهر ٢: ٢٩٥ - ٤١٤ كتاب مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي (٣٥١ هـ) وجاء في ضمن ترجمة أبي عبيدة (٢: ٤٠٢): "وهو أول من ألفّ في غريب الحديث" والسياق يدلّ على أن ذلك من كلام أبي الطيب مثل سابقه ولاحقه، ولكن هذه الجملة لا توجد في الكتاب المطبوع بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
(٣) فتح المغيث ٤: ٢٤. كذا في المطبوع "بسبع" والصواب: بسبعة.
(٤) نزهة الألباء: ٧٥.
1 / 16
المحرم" (١)، فقال بعضهم إنه توفّي سنة ٢٠٤ هـ. أما أنه توفّي سنة ١٨٣ هـ قبل وفاة أبي عبيدة (٢١٠ هـ) بسبعة وعشرين عامًا، فلم يقل بذلك أحد قبل السخاوي ولا بعده. ثم ولد أبو عبيدة سنة ١١٠ هـ، وولد النضر في حدود سنة ١٢٢ هـ فأولهما أقدم من الثاني باثني عشر عامًا. ولكن ليس في شيء من ذلك حجة على كون أحدهما سابقًا والآخر مسبوقًا في تأليف غريب الحديث، فإنهما على كل حال عاشا ثمانين سنة في زمن واحد.
والقول الثاني الذي ذكره ابن الصلاح هو الذي عوّل عليه ابن الأثير الجزري (٦٠٦ هـ) في مقدمة النهاية، فقال: "فقيل إن أول من جمع في هذا الفن شيئًا وألّف أبو عبيدة معمر بن المثني التيمي، فجمع من ألفاظ غريب الحديث والأثر كتابًا صغيرًا ذا أوراق معدودات ... ثم جمع أبو الحسن النضر ابن شميل المازني بعده كتابًا في غريب الحديث أكبر الحديث أكبر من كتاب أبي عبيدة، وشرح فيه وبسط على صغر حجمه ولطفه، ثم جمع عبد الملك بن قريب الأصمعي ... " (٢).
لم يشر ابن الأثير - كما نرى - إلى قول الحاكم، وإنما ذكر قولًا واحدًا وهو أن أبا عبيدة سبق معاصره النضر بن شميل إلى التأليف في غريب الحديث وأكّد ذلك باستعمال كلمتين: "ثم" و"بعده". ولم يكن افتتاح ابن الأثير كلامه هنا بلفظة "قيل" للتضعيف، فإنه لم يشر البتة إلى قول آخر يرجحه في هذه المسألة، وإنما كان سبيله سبيل من يجد بين يديه قولين أو أكثر، فيختار منهما ما يستحسنه ويميل إليه، وإن كان لا يملك حجة قاطعة عليه.
وبالجملة فهما قولان مأثوران في هذه المسألة أشهرهما ما اختاره ابن الأثير "ويكاد الإجماع ينعقد عليه" كما يقول الدكتور محمود الطناحي (٣).
_________
(١) سير أعلام النبلاء ٩: ٣٣١.
(٢) النهاية ١: ٥.
(٣) في اللغة والأدب: ١: ٣٩٧.
1 / 17
ولكن الدكتور حسين نصّار ذهب إلى رأي ثالث وهو أن أول كتاب في هذا الفن ألفه أبو عدنان السلمي، ونسب ذلك إلى صاحب الفهرست، فقال: "عز أكثر الباحثين الكتاب الأول في غريب الحديث إلى أبي عبيدة معمر بن المثني (٢١٠ هـ) تبعًا لابن الأثير. ولكن هذا القول يجب ألا يؤخذ قضية مسلّمة، فقد نسب ابن النديم الكتاب الأول من هذا النوع إلى أبي عدنان عبد الرحمن بن عبد الأعلى". ثم نقل ما جاء في الفهرست: "وله ... كتاب غريب الحديث، وترجمته (ما جاء من الحديث المأثور عن النبي ﷺ مفسّرًا)، وعلى إثره ما فسّر العلماء من السلف" (١).
وأيّد ما فهمه من كلام ابن النديم بأن أبا عدنان "راوية لأبي البيداء الرياحي، وهو معاصر ليونس بن حبيب، أستاذ أبي عبيدة، فأبو عدنان إذن وأبو عبيدة متعاصران، ومن المحتمل أن يسبق أحدهما الآخر في التأليف في غريب الحديث، ولكن إذا كان لنا أن نعتمد على مؤرخ، فالأجدر بالترجيح ابن النديم، لأنه أقدمهم وأقربهم إلى عصر هؤلاء المؤرّخ لهم، فنقدم بذلك أبا عدنان على أبي عبيدة".
لم يصرح ابن النديم بأن أبا عدنان أول من ألّف في غريب الحديث ولكن الدكتور حسين نصّار تأول كلامه على هذا، وذلك أنه زعم أن عنوان كتاب أبي عدنان: "ما جاء من الحديث المأثور عن النبي ﷺ مفسرًا" (٢)، أما الجملة التي بعدها فهي كلام مستأنف، و"ما" في قوله "ما فسر" زائدة، وقصد به ابن النديم أن العلماء من السلف إنما فسروا غريب الحديث بعد أبي عدنان. وهذا التأويل لكلام ابن النديم يبدو صحيحًا لأول وهلة. ولكن يضعفه أمور منها:
١ - لو قصد ابن النديم ما ذهب إليه حسين نصّار لما كان لقوله "من
_________
(١) الفهرست: ٥١.
(٢) المعجم العربي: ١: ٤٢ - ٤٣.
1 / 18
السلف" وجه من الكلام، ولكان لغوًا من القول.
٢ - نقل جمال الدين القفطي (٤٢٦ هـ) ترجمة أبي عدنان عن الفهرست، وأورد عنوان كتابه على هذا الوجه: " .. وترجمته: ما جاء من الحديث المأثور عن النبي ﷺ مفسّرًا ما فسّر العلماء" (١). وهذا يدلّ على أن الجملة التي فصلها الدكتور حسين نصّار يراها القفطي جزءًا من عنوان الكتاب.
٣ - صحيح أن أبا عدنان معاصر لأبي عبيدة، ولكن عداده في أصحابه، فقد نصّ الصفدي في ترجمته على أنه "أخذ عن أبي زيد الأنصاري، وأبي عبيدة، والأصمعي وطبقتهم" (٢). وكذلك ذكر القفطي في ترجمة شمر بن حمدويه الهروي (٢٥٥ هـ) أنه لقي جماعة من أصحاب أبي عمرو الشيباني وأبي زيد الأنصاري وأبي عبيدة والفراء، ثم عد منهم: الرياشي (٢٥٧ هـ) وأبا نصر (٢٣١ هـ) وسلمة بن عاصم (٢٧٠ هـ) وأبا عدنان (٣). وذكره أبو الطيب اللغوي مع أبي عكرمة الضبي صاحب كتاب الخيل (٢٥٠ هـ) وقال: "وقد روى أبو عدنان عن أبي زيد كتبه كلها" (٤).
فالظاهر أن ما ورد في الفهرست إلى قوله "العلماء من السلف" هو العنوان الكامل لكتاب أبي عدنان، ومعناه أنه أورد في كتابه أحاديث النبي ﷺ، وأتبعها بما فسّرها به العلماء من السلف. ولعلّ في نصّ الفهرست شيئًا من الخلل يدلّ عليه ما نقله القفطي في كتاب الإنباه.
وإني لأستغرب أن الباحثين في غريب الحديث لم يتعرضوا إلى ما ذهب إليه الدكتور حسين نصّار، وكان أحقّهم بذلك الدكتور محمود محمد الطناحي،
_________
(١) إنباه الرواة ٤: ١٤٨، وفيه: "في الحديث"، و"نشر" تحريف.
(٢) الوافي ١٨: ١٥٦.
(٣) إنباه الرواة: ٢: ٧٧.
(٤) مراتب النحويين: ١٤٤.
1 / 19
لأنه كتب في هذا الموضوع أكثر من مرة. فهل ظنّوا أن عدم الالتفات إلى رأي الدكتور حسين نصّار أولى به وأن ذلك يجعله مطرحًا منسيًا؟ ولكني ألفيت أحد الباحثين قد تأثر بهذا الرأي، فافتتح الفصل الذي عقده في كتابه لإحصاء معاجم غريب الحديث بكتاب أبي عدنان السلمي (١).
(٢) الغرائب المشهورات ومناهجها
منذ ظهرت الكتب الأولى في غريب الحديث على أيدي علماء اللغة لم تنقطع سلسلة التأليف في هذا الفن، فلم يخل عصر من العصور من الجامعين فيه. وقد بلغ عدد مصنفات غريب الحديث فيما أحصاه أحد الباحثين نحو ٩٠ كتابًا، مع أنه قد فاته ذكر بعض الكتب التي وصلت إلينا فضلًا عن غيرها (٢).
وقد تنوّعت مناهج المؤلّفين في ترتيب كتبهم وتفسير الغريب، أشير إليها في السطور الآتية بإيجاز، مع الإلماع في غضون ذلك إلى مكانتها:
١ - منهج اللغويين الأوائل
وهو المنهج الذي اتبّعه أبو عبيدة وغيره من علماء اللغة في القرنين الثاني والثالث، فكانوا يوردون الأحاديث دون ذكر أسانيدها، ثم يفسّرون غريب ما فيها باختصار أو شيء من البسط (٣).
٢ - منهج أبي عدنان
كان أبو عدنان من أصحاب أبي عبيدة وأبي زيد وطبقتهما كما سبق، لكنه
_________
(١) معجم المعاجم: ٢٣.
(٢) المرجع السابق: ٢٣ - ٤١.
(٣) انظر ما سبق من كلام ابن درستويه في الفقرة السابقة، ومقدمة غريب الخطابي ١: ٤٩ - ٥٠.
1 / 20
اختار لكتابه في غريب الحديث منهجًا جديدًا، فرتّب كتابه على أبواب السنن والفقه وذكر فيه الأسانيد أيضًا، كما وصفه ابن درستويه.
٣ - منهج أبي عبيد
لما ألّف أبو عبيد القاسم بن سلام (٢٢٤ هـ) كتابه الحافل وجمع فيه ما تفرّق في كتب أبي عبيدة والأصمعي وغيرهما، وأضاف إليه أحاديث وآثارًا كثيرة أوردها مع أسانيدها، قدم أحاديث رسول الله ﷺ، وأتبعها آثار الصحابة ثم التابعين، جامعًا آثار كل منهم في مكان واحد. وامتاز تفسيره "بصحة المعنى وجودة الاستنباط وكثرة الفقه (١) ". فصار كتابه قدوة "لما حواه من الأحاديث والآثار الكثيرة، والمعاني اللطيفة والفوائد الجمة" (٢).
وحذا حذوه في هذا المنهج ابن قتيبة (٢٧٦ هـ) الذي تتبع ما فات أبا عبيد، فاستدرك عليه في كتابه المشهور، وكذلك أبو محمد قاسم بن ثابت العوفي السرقسطي (٣٠٢ هـ) في الأندلس، وأبو سليمان حمد بن محمد الخطابي (٣٨٨ هـ) في المشرق، وكلاهما استدرك على ابن قتيبة، ولم يطّلع الثاني على كتاب الأول.
وهذه الكتب الأربعة هي أمهات هذا الفن، وإن لم يشتهر كتاب العوفي - مع علو منزلته - في بلاد المشرق، لتأخّر وصوله إليها.
وقد دارت حول هذه الأصول الجلية مؤلفات كثيرة لشرحها أو اختصارها، أو ترتيبها، أو إصلاح غلطها، أو الانتصار لها، أو تفسير شواهدها، أو جمعها وتلخيصها في كتاب واحد.
_________
(١) غريب الحديث للخطابي: ١: ٥٠.
(٢) النهاية في غريب الحديث والأثر ١: ٦.
1 / 21
٤ - منهج إبراهيم الحربي
انتهج أبو إسحاق إبراهيم الحربي (٢٨٥ هـ) في كتابه منهجًا بديعًا إذا أراد أن يجمع فيه بين نظام المسانيد عند علماء الحديث ونظام التقاليب الذي اخترعه الخليل بن أحمد (١٧٥ هـ)، فلم يسلم له هذا ولا ذاك. فإذا ذكر حديثًا من أحاديث صاحب المسند، ليفسّر الكلمة الغريبة التي ورد فيها، أتبعه أحاديث من المسانيد الأخرى، وردت فيها ألفاظ من مادة الكلمة الأولى، وقد يقلب المادة ولا يكون في بعض تقاليبها حديث أو أثر ولكنه يفسّر ألفاظًا لغوية من تلك التقاليب (١).
ثم أفاض في تفسير غريب الحديث وشرحه وأكثر من الاستشهاد، وأسند رواياته عن علماء اللغة وغيرهم، "فطال بذلك كتابه، وبسبب طوله ترك وهجر، وإن كان كثير الفوائد جم المنافع، فإن الرجل كان إمامًا حافظًا متفننًا عارفًا بالفقه والحديث واللغة والأدب" (٢).
وما وصل إلينا من كتاب الحربي شاهد بصحة ما وصفه به ابن الأثير.
٥ - منهج الهروي
كان أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي (٤٠١ هـ) صاحب الأزهري (٣٧٠ هـ) معاصرًا للخطابي (٣٨٨ هـ). وهو أول من جمع في كتابه بين غريب القرآن وغريب الحديث، ولعلّ فكرة الجمع هي التي هدته إلى منهج جديد ميسّر لترتيب كتابه، فاستخرج الألفاظ الغريبة من الأحاديث ورتّبها على أصول حروفها بادئًا بالحرف الأول ملتزمًا بالثاني ثم الثالث إلا إذا خاف في كلمة أن لا يفرّق طلبة الحديث بين الحرف الأصلي والحرف الزائد فيها، فأثبتها في باب
_________
(١) انظر تفصيل هذه الخلاصة في مقدمة المحقق لغريبه ١: ٩٢ - ٩٦.
(٢) النهاية ١: ٦.
1 / 22
الحرف الأول وإن كان زائدًا. ثم كان شرطه الاختصار فحذف الأسانيد وقلل الشواهد، وأوجز التفسير، "فانتشر كتابه بهذا التسهيل والتيسير في البلاد والأمصار، وصار هو العمدة في غريب الحديث والآثار" كما قال ابن الأثير (١).
واستدرك على كتاب الغريبين للهروي الحافظ أبو موسى محمد بن عمر المديني الأصفهاني (٥٨١ هـ) فجمع ما فاته في كتاب مرتّب على ترتيب الأول ومقارب له في حجمه وفائدته.
وعلى هذين الكتابين بني مجد الدين ابن الأثير (٦٠٦ هـ) كتابه "النهاية في غريب الحديث والأثر" فاستخلص منهما مادة غريب الحديث، مشيرًا إلى كل منهما برمز خاص، ثم زاد عليهما زيادات كثيرة من الكتب الأخرى، فجمع كتابه بين مزيتين: مزية الإحاطة بغريب الحديث ومزية حسن الترتيب وقرب المأخذ، فصار صيته في الآفاق، واستغنى طلاب العلم عن غيره من المصنّفات.
٦ - منهج الزمخشري
اتبع أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (٥٨٣ هـ) منهج الهروي غير أنه رأى أن الحديث الواحد عنده يتفرّق في حروف مختلفة حسب الكلمات الغريبة التي وردت فيه، فحرص في كتابه الفائق على أن يورد الحديث، ويفسّر ألفاظه الغريبة كلها في مكان واحد، فأدّى ذلك إلى أن جاءت كثير من الألفاظ في غير حروفها. فتدارك ذلك بالإشارة في آخر كل فصل إلى الكلمات الباقية منه والإحاطة على مواضعها. ولعلّ النسخة التي اطّلع عليها ابن الأثير من كتاب الفائق خلت من تلك الإحاطات فقال: "ولكن في العثور على طلب الحديث منه كلفة ومشقة"، وقال أيضًا: "فترد الكلمة في غير حروفها، وإذا تطلبها الإنسان
_________
(١) المرجع السابق ١: ٩.
1 / 23
تعب حتى يجدها" (١).
هذه هي المناهج التي اتبعها أصحاب غريب الحديث في ترتيب مؤلفاتهم، ثم كان لكل كتاب منها سمات خاصة في تفسير الغريب لا موضع لتفصيلها هنا.
الكتب المذكورة آنفًا تناولت غرائب الأحاديث والآثار بصورة عامة. وهناك قسم من كتب الغريب قصرها مؤلفوها على كتاب من كتب الحديث، نحو تفسير غريب الموطأ لأبي عبد الله أصبغ بن الفرج بن سعيد (٢٢٥ هـ)، وكتاب أبي عمر الزاهد (٣٤٥ هـ) في تفسير غريب مسند الإمام أحمد بن حنبل، وشرح غريب كتاب الإمام البخاري لابن الصابوني (٤٢٣ هـ).
وقد أفرد أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري (٣٢٨ هـ) رسائل لتفسير بعض الأحاديث نحو شرحه لغريب كلام هند بن أبي هالة في صفة رسول الله ﷺ، وشرحه غريب حديث أم زرع، وشرحه غريب خطبة عائشة أم المؤمنين في أبيها، ﵄. ولابن الأنباري كتاب مستقل في غريب الحديث أيضًا.
(٣) من الغرائب المخطوطة
لم يبق من تراث غريب الحديث إلا الثلث أو أزيد منه قليلًا. ونحمد الله سبحانه على أن معظم أصول هذا الفن ومصنّفاته المشهورة قد وصلت إلينا وتم تحقيقها وطبعها. ومنها الكتب الأربعة الأمهات: كتب أبي عبيد (٢) وابن قتيبة (٣)
_________
(١) النهاية ١: ٩.
(٢) صدرت طبعته الأولى في الهند عن دائرة المعارف العثمانية بحيدراباد الدكن في أربعة مجلدات سنة ١٩٦٤ - ١٩٦٧ م، ثم حققه الدكتور حسين شرف تحقيقًا علميًا نشره مجمع اللغة بالقاهرة في ٥ مجلدات سنة ١٤٠٤ - ١٤١٥ هـ =١٩٨٤ - ١٩٩٤ م. ثم صدرت فهارسه في مجلد سنة ١٤١٩ هـ = ١٩٩٩ م.
(٣) طبع بتحقيق الدكتور عبد الله الجبوري ببغداد في ثلاثة أجزاء سنة ١٩٧٧ م، ولم تكن في المخطوطات مخطوطة كاملة، فبقي فيها نقص. ولابن قتيبة أيضًا كتاب إصلاح الغلط =
1 / 24