أن التطور سنة طبيعية، وأن فصل الدين عن السياسة من نتائج التطور السياسي والديني؛ لذلك لا أوافق إخواني اللبنانيين في استقلال ينشدونه غير مدركين أن نصفه وهم ونصفه تعصب ديني. كما أني لا أوافق مواطني الدمشقيين في استقلال تام ناجز يطالبون اليوم به وهم في حاجة إلى مال الأوروبيين وعلم الأوروبيين في بادئ أمرهم، بل هم في حاجة إلى جند منظم يستأصل شأفة العصابات المجرمة ويوجد الأمن والطمأنينة في البلاد.
أجل، إني لم أزل أعتقد بمشارفة أوروبية إلى أجل محدود؛ حتى يطمئن المسيحيون إلى إخوانهم المسلمين فتنمو بين الشعبين تدريجا ثقة تمكنهم من التآلف والاتحاد. فإذا كان إخواننا في دمشق شريفين نية، مخلصين عملا، فليفتحوا قلوبهم وعقولهم إذا وليرحبوا بمن يريد مساعدتهم .
إنهم يطالبون اليوم بالوحدة السورية، ويعدوننا بحكومة دستورية حرة مؤسسة على سنن الدمقراطية بل على سنن العدل والإخاء والمساواة، نعم الغاية غايتهم، ولكن حكومة مستقلة في قلب بلاد يستولي الغير على أبوابها البحرية لا تفي بواجب الاستقلال، ولا تنعش أملا في حياتنا الوطنية، فاللبناني وهو يستنجد الإفرنسي مذعور خائف، مذعور مما حدث، وخائف مما قد يعاد من ماض أليم.
فيا إخواني الدمشقيين، قولوا لفرنسا - إذا كنتم مخلصين في ما تطلبون وتعدون: إننا نود أن نكون وهذا الشعب اللبناني أمة واحدة لهم ما لنا وعليهم ما علينا، بل عليهم أقل مما علينا إكراما لتقاليدهم وعملا بما توجبه طبيعة بلادهم. تعالي إذن راقبينا خمس سنوات مثلا فتتأكدين حسن نيتنا وتتحققين - إن شاء الله - حسن عملنا. إننا لنرحب بك يا فرنسا إذا ساعدتينا في تعزيز الوحدة القومية الجغرافية، ولكننا نصدك، نقاومك، نهدر دمائنا في محاربتك إذا حاولت قتلها.
ولا شك عندي أن سياسة فرنسا السورية ستكون منذ الآن فصاعدا سياسة توحيد لا تفريق،
3
ولا شك عندي أن الأمير فيصلا وهو الزعيم البصير الحكيم يستطيع أن يقف بالمتهوسين عند حد التعقل والاعتدال، فإذا كان السوريون في المنطقة الشرقية يريدون استقلالا وطيد الأركان فليعلموا أن لا سبيل إليه إلا باتحادهم واللبنانيين، وما زال في البلاد فئة من الناس تفزع إلى حكومة أوروبية، ما زال شبح الاحتلال منتصبا فيها يهدد كيان القومية الوطنية.
وبكلمة أوضح ما زال لبنان يقبل بالمشارفة الإفرنسية بل يطلبها، والسوريون في الداخلية يرفضونها، فستبقى الحكومة المشارفة مضطربة الرأي، متزعزعة الأصول، لا تدري أتخرج من لبنان أو تبسط سيادتها في المنطقة الشرقية أيضا. وقد كان هذا موقف فرنسا منذ دخلت سوريا حتى الشهر الماضي، فكان - ويا للأسف - سببا من الأسباب التي شجعت عصابات الأشقياء في ما ارتكبوه من الفظائع باسم الوطن. إلا أن هناك أسبابا أخرى قد تتعامى في غيرتنا المذهبية عنها. ليست المسئولية في هذه الفظائع على حكومة دمشق، ولا على العصابات فقط، ولا على الحكومة المحتلة وحدها، لنسجل الحقيقة وإن كانت علينا، فإذا تقصينا الأسباب يتضح لنا المسئولية في بادئ الأمر إنما هي على اللبنانيين أنفسهم، وقد وكلوا أمورهم السياسية إلى رئيس طائفة مسيحية، فاستحالت المسألة وقد اكتسبت صفة دينية، احتجاجا على الإسلام صريحا جليا، ناهيك باسترسالهم إلى حب فرنسا حتى الهوى، حتى الجنون، فكرهوا المتعقلين من المسيحيين إياها ونفروا المسلمين.
ولا بد من تسجيل حقيقة أخرى - وإن كانت مؤلمة: إن المسلمين لأشد إخلاصا في وطنيتهم من المسيحيين، وأسد رأيا وخطة؛ فهم يطلبون استقلالا تاما دون وصاية أوروبية وهذا صريح جلي، والمسيحيون يتغنون بالوطنية ويطلبون استقلالا ناقصا بمشارفة هذه الدولة أو بمساعدة تلك الأمة. ولا بأس بالحماية بل نراها اليوم واجبة إذا كانت محدودة الأجل، مرتبطة بشروط لا تقدح بالوحدة القومية ولا تضر بمصالح الوطن.
ولكن الأقلية المسيحية ستظل - على ما يظهر - أقلية، وهي تنقص بسبب المهاجرة يوما فيوما، والأكثرية الإسلامية ستظل أكثرية في البلاد السورية. إن المسيحيين لفي حاجة إذا إلى حماية دائمة، والحماية الدائمة احتلال، والاحتلال إنما هو الاستعمار، فهل الاستعمار يا ترى نوع جديد من الاستقلال؟ وهل ينطبق مثل هذا الاستقلال الموهوم على وطنية اللبنانيين؟ أيرضون بمشارفة إفرنسية دائمة بل باحتلال بعيد الأجل، بل باستعمار يفقدهم تدريجا جنسيتهم، ولغتهم، وتقاليدهم، فيمسون كأبناء الجزائر والتونسيين؟ بل يمسون لا لبنانيين يعرفون ولا فرنسويين.
Unknown page