381

وعندما أخبرت المستر ولز بخوف جاري وتشاؤمه قال ضاحكا: «بل أحب أن أصحح أو أعيد كتابة بعض فصول من التوراة.» ليس الرجل لامعا في حديثه ولا يجيء بالنكتة أو بظريف الجواب إلا نادرا، وإن ما فيه من الإخلاص والرصانة، والحصافة والاستقامة، ليشفع حتى بالمبتذل أحيانا من آرائه، ولكنه في حديثه مع السيدات أبرع منه مع الرجال، وعنده شيء من المجون الإنكليزي الذي أشبهه بمن يلبس نعلا من الكوتشوك فلا تسمع إذا زارك وطء قدميه، لا أريد بذلك أن مجون المستر ولز خداع غدار يجيئك من حيث لا تدري، بل هو من النوع الذي تسرك إشارته ولا يسوءك صوته، وكان لي منه حظ يذكر بالرغم عمن كان يميل إليهن من السيدات ومن يحمن منهن حوله، فكنت أحتفظ كل يوم بأثر من نفسه وبشيء من حديثه، وقد كان لنا جلسة ذات يوم طويلة تبادلنا بعدها التآليف وكتب هو على كتابه: «إلى أمين الريحاني، بعد حديث مستحب في مواضيع هذا العالم - عالمنا.»

وفي ذاك اليوم بعد ذاك الحديث سألتني إحدى السيدات: «وهل من صحة لما يقال من أن للمستر ولز أربع زوجات.» فقلت: «هو يعجب بالمسلمين ولكنه على ما أظن لم يعتنق حتى الآن الإسلام»، فأجابت على الفور: «ليس من الضروري أن يعتنق الإسلام.» وفي جوابها ما يشير إلى باب من أبواب النهضة النسائية الحديثة في أوروبا وأميركا، فإذا وصلت إلى الباب تقرأ ما كتب فوقه وهي كلمة واحدة: المساواة.

وللمستر ولز في فلسفة الزواج الجديدة أسهم عديدة، منها ما يشق كبد الاصطلاحات، ومنها ما يصيب كبد الحقيقة، ومنها ما يرمى في الهواء فلا ندري أين يقع وماذا يصيب، إلا أن سلوكه في الحياة لينطبق على مبادئه وتعاليمه، أي: أنه مطلق الحرية والتصرف في انتسابه السياسي مثلا وفي اختياره الجنسي، وهو وإن كان له أكثر من زوجة واحدة - ليس لي أن أثبت الأمر أو أنفيه - لا يدعي العصمة ولا النبوة، وهو وإن كان اشتراكي المبدأ، لا يحترم كارل ماركس مثلا ولا يحتقر لويد جورج، ولا يرى في ضيافة الأغنياء ما يراه الشيوعي القصير النظر.

إن التعصب الأعمى لمن الآثار القديمة، والمفكر المهذب الحصيف يسير مع الزمان وأبناء الزمان مواليا في ما لا ضر فيه، ولا يطلب من الناس غير الصدق في القول، وكرم الأخلاق في العمل، وحسن الذوق في الاثنين، وقد يقتنع أحيانا بحسن الذوق فقط. ألا ما أسخف الرجل الذي يفاخر دائما بماله أو بدينه أو بمذهبه السياسي وما أثقله، إن أهم ما في الحياة الناس، ومن يحفظ التوازن بين شئون الناس وقضايا الحياة كلها إنما هو صديقنا الأكبر ومعلمنا، بل هو من المحسنين إلينا.

ولا أبالغ إذا قلت: إن المستر ولز من هؤلاء الأفراد القلائل في العالم، فما ضره إذا لبس مثل التجار الأغنياء ونام في كرسيه على ظهر الباخرة مثل سائر الناس - وغط كذلك - وما ضره إذا لعب بالورق مع السيدات؟ إنه طالب راحة ونزهة، وهل في كل الجمال البشري ما يرتاح إليه المرء ارتياحه إلى وجه جميل وابتسامة جميلة؟ فضلا عن أن الروائي يرغب دائما بالحياة على اختلاف مظاهرها، يبحث دائما عن موضوع، عن عروس، عن حادثة - غريبة أو جديدة - لرواياته.

حدثني ذات يوم مراسل إيطالي كان معنا في مؤتمر واشنطون وكان في الباخرة، وهو شاب جميل، نقطة دائرة من الأوانس باهرة، قال ينتقد كتاب المستر ولز «موجز التاريخ» إن الفصول المختصة بتاريخ إيطاليا مفعمة بالأغلاط والمقدسات الفاسدة، ولا يدرك ذلك إلا المؤرخ الإيطالي ومن كان متضلعا بتاريخنا، إنما المستر ولز روائي لا مؤرخ، فقلت: إنه أكثر من روائي وأكثر من مؤرخ، هو فيلسوف ومصلح وحكيم. والمؤرخ غالبا عقيم وإن اجتمعت فيه مزيتا الفلسفة والحكمة؛ لذلك نفضل تاريخ ولز بما فيه من الأغلاط على تواريخ لا أغلاط فيها ولا حياة، أما النوع الأول أي: الخالي من الأغلاط فغير موجود والنوع الثاني نادر جدا، وقد لاحظت أن في فصول أخرى غير التي أشار إليها الكاتب الإيطالي قرب المستر ولز من الحقيقة ولكنه لم يفز بها، وعل إشارة خير من عبارة.

انتقلت ومحدثي من التاريخ إلى الفنون، وبينا كان يتكلم عن النهضة الفنية الحديثة في إيطاليا وثبت منه نظرة أوقفت الكلمة على لسانه، فغير الحديث هاتفا: «لله هذه الفتاة، أتعرفها (وكانت قد مرت بنا أجمل فتاة في الباخرة) هي ابنة السيدة التي تجلس إلى المائدة قرب المستر ولز، وهو حتى الآن لم يعرفني بها، أكذلك يكون المؤرخ الحقيقي؟» فتأكدت عندئذ أن حسد الكاتب هو حسد القلب، لا حسد الأدب.

3

ليس للمستر ولز خطة اشتراكية أو طريقة عملية لإصلاح العالم، فهو اليوم اشتراكي علما لا اشتراكي عملا، وقد يقبل الهيئة الاجتماعية والسياسية الحاضرة بما فيها من المنكرات إلى أن يحدث حادث يقلبها بطنا على ظهر، وإنه في ما يكتب يمهد السبيل لمثل ذا الحادث بل يستسرع يومه، وله في المستقبل نظرات هي في الغرابة مثل نظرات المستر برنارد شو، إلا أن لها هالة علمية وفيها لب النشوء والارتقاء. في المستر ولز سلامة ذوق يتخلله شيء من المجون، وفي المستر شاو مجون يتخلله شيء من سلامة الذوق.

قلت للمستر ولز: «إذا كان الحب المطلق والأسرة كما هي اليوم يتناكران ويختلفان فأيهما تنبذ، بل أي منهما أنت تنصر؟» فأجاب قائلا: «لا بد للقائل بالحب المطلق أن يتنازل عن بعض أشيائه لكي تصان الأسرة في حالها الحاضر إلى أن يصير أمرها إلى الحكومة فتؤسس دائرة خصوصية تتولى شأنها.»

Unknown page