وإننا إذا سلمنا أن هذا الروائي المؤرخ لا يتحرى في ما يكتب الترسل والإبداع أو الاشتهار بأسلوب خاص فإن غزارة مادته، وسعة علمه، وكبر همته التي لا تعرف الكلل، وخلاء وجهه من أثر العمل في التوليد الدائم، بل من دلائل التعب والملل، لما يستحق الذكر ويستوجب الإعجاب، فهو في حركاته وفي وجهه وفي اطمئنان نفسه وفي ظهره الهادئ إجمالا شبيه بقسيس لم يعمل في حياته عملا غير تحبير المواعظ أو انتحالها، وللمستر ولز أيضا مواقف في الوعظ، إلا أنها غير مواقف المحترمين أصحاب الإنجيل، فقد وعظ ضد كل شيء في العالم ولم يستثن الديانة المسيحية، وهو تلميذ الأستاذ هكسلي، ومن أنصار مبدأ النشوء والارتقاء الثابتين.
وما همني من أمره تلك الليلة غير نظرات في الإسلام والأمم الشرقية في كتابه «موجز التاريخ» فإنه بعد تأليفه هذا الكتاب، وبعد رجوعه من روسيا، وفي معالجته موضوع «الحرب والسلم» في واشنطون، أصبح شبه نبي اجتماعي بل أمسى طبيب العالم بأسره، وما هو مثل بعض الأطباء يصف الدواء الواحد لكل الأدواء، بل له وصفات خاصة لا تزال تستغوي المطلق من العقول، وأنا في السياسة وفي الدين لا أزال مطلق الرأي والعقيدة، لي في الصحيح من تعدد المذاهب شغف يغتفر عنده التنقل والغزل، وقد كان لي بعد موعدي مع ولز موعد مع الزعيم الشاب السياسي الصيني والنغتون كو.
قد اجتمع الشرق والغرب في واشنطون وتنازعا ثم عقدا معاهدة، إلا أنهما لم يتفقا على نظام أدبي واحد في السلوك السياسي تتبعه الدول جمعاء. وهذا لعمري سبب المحنة، بل سبب المحن السياسية كلها في العالم، فإذا كان الشرق يتوق إلى وطنية غير معادية لأوروبا، بل هي بالعكس بنت التهذيب الأوروبي، وإذا كان الغرب في تطوره السياسي ينحو نحو اشتراكية تعطف على وطنيات الشرق الناشئة نشأة جديدة، ثم تسير هاتان النهضتان في خط مستقيم الواحدة نحو الأخرى، فإلى متي يا ترى نعمد في حلنا المسائل الأجنبية إلى ما ألفناه من تعصب في التشريق أو التغريب؟ إلى متى تبقى المسألة مسألة شرق وغرب؟ ومتى تصير مسألة عدل وأدب وكفاءة؟ هذه من المسائل التي سألتها المستر ولز تلك الليلة.
ولا أذكر أنه اتقاها أو أجاب صريحا عليها، قال: «إن أوروبا سائرة إلى الدمار، ولكن لا يزال عندها أشياء يمكن أن يستفيد الشرقيون بها، وخير لهم أن يسرعوا.» فقلت: «إذا كانت أوروبا أو بالأحرى المدنية الأوروبية في حال النزاع، والشرق الحر الناهض الذي يفك رويدا رويدا قيوده القديمة ينظر إليها نظر المعترف بالفضل المستمد الإسعاف، فماذا عندكم تمدوننا به؟ ما هي عندك طريق الخلاص؟»
فأجاب المستر ولز قائلا: «العلوم التقنية (الفنية)، فإن الاستقلال الوطني والاجتماعي موكل بالاستقلال الاقتصادي، ولا تفوز الأمم بالاستقلال الاقتصادي إلا بإحسانها العلوم الطبيعية كالهندسة والكيمياء والميكانيكيات كلها، هذا ما يفتقر إليه الشرقيون، ويمكنهم أن يتعلموه في كلياتنا، وخير لهم أن يسرعوا.»
وهو يقول بالإسراع قولا ممكنا، كأنه يرى قرب حلول مصيبة أشد هولا من التي لا تزال تخيم على العالم، ولا يرى للروحيات في المحنة أو في درئها دخلا أو لزوما. أذكر أنه قال: إن بعض مصيبة الشرق هو استرسال أبنائه في الشعر. «وما قولك بالدين؟» «إنه يتوقف على ما فيه من الخير العملي، كلنا نكره التدجيل كما أنا نكره التدين الآلي، ولكن في القرآن أشياء كثيرة حسنة تكاد تهمل، فحبذا تجديد الحياة فيها وإهمال القديم المنافي لخير هذا الزمان، المعادي لطبعه. ناهيك بأن القرآن عروة الإسلام الوثقى، أو هو - في الأقل - وسيلة يحسن استخدامها في تحقيق الوحدة الإسلامية، وإن وحدة أية أمة من الأمم مفيدة لها ولغيرها، فالوحدة تعيد إليها كرامتها وتوجب عليها القيام بعهودها، أما الإسلام اليوم فمشتت الشمل، مبدد القوى، ولو لم يكن لدى المسلمين من واسطة إلى الاتحاد لوجب عليهم اختراعها، ولكن كتابهم خير واسطة. خذ لك مثلا شخصيا: لست ممن يؤمون الكنيسة للصلاة، ورأيي في الدين أنه لا يزال في حال الامتحان والتجربة، فالكلمة المتناهية حكمة لم ينطق بها بعد لا في الكنيسة ولا خارجها، ولا في الشرق ولا خارج الشرق، ومع ذلك إني على يقين تام من أمر واحد، فإذا كانت انكلترا في خطر من الاحتلال الأجنبي - العربي فرضا - وكان أبناؤها مشتتين مبددين في أربع زوايا الأرض دون رابطة تربطهم بعضهم ببعض فلا أتردد في دعوتهم إلى الإنجيل بل أتخذ الكتاب المقدس شارة جنسية، وعلما وطنيا، وعروة شاملة في الوحدة القومية.»
قلت: «من رأيك إذن أن يتمسك المسلمون بالقرآن ويتعلموا العلوم الطبيعية؟»
قال: «أولا ترى أن ذلك خير لهم؟»
إن المستر ولز على جانب عظيم من اللطف والذوق، فلا هو يحتكر الحديث ولا يبدي رأيه كأنه آية منزلة، وقد ظهر لي أنه لم يحط علما بالإسلام، وما ساح قط في بلاد إسلامية ليدرك الفرق الأساسي بين شعب انكليزي يعتصم طالبا الوحدة بالإنجيل وشعوب إسلامية مختلفة متعددة تعتصم بحبل الله وبكتابه للغاية ذاتها، فالشعب الإنكليزي أليف الفكرة العلمية الحرة وإن لم يكن متطرفا فيها مثل المستر ولز، وهذه الفكرة - أم التهذيب والعلم - التي تشترك بها الأمم الأوروبية الراقية تقي الإنكليز - في عودتهم إلى الإنجيل كرابط سياسي - من الرجعية، من التقهقر، بل من تجديد الحروب الدينية، أما الشعوب التي لم تعرف في تاريخها كله ولا في أدواره الباهرة مظهرا من مظاهر الحكم المدني البحت، والتي لا ترى في دنياها ما هو جدير بالنظر والاهتمام غير ما كان له صلة في الدين والآخرة، لا يخلوا رجوعها إلى كتابها تحقيقا للوحدة السياسية من أخطار التعصبات الدينية وأضرار النعرات المذهبية، والخطة المثلى لمثل هذه الشعوب - الخطة التي استحسنها بعدئذ المستر ولز وفضلها على الأولى - هي أن تسعى في تحقيق الوحدة الجنسية القومية لا الوحدة الدينية.
ولكننا وقفنا تلك الليلة عند هذا الحد في الموضوع، ووقفت أستأذنه بالخروج؛ لأن الساعة كانت الثامنة وما كان قد لبس ثوب المساء للعشاء، إلا أنني في الختام أثنيت على روايته الأخيرة التي طالعتها بسرور وإعجاب وهي في رأيي أحسن رواياته وأقصرها، ولها مقدمة هي من الإبداع بمكان، فقد تحرى في شكلها سفر أيوب. إلا أن المساجلة هي بين الله والشيطان فقط، وقد اختلق المستر ولز شيطانا جديدا له ذوق وأدب، وله كذلك إلمام بالعلوم وعلى الأخص علم النشوء والارتقاء، سأل الله الشيطان قائلا كما قال قديما في سفر أيوب: وماذا تعمل في الأرض؟ فأجابه الشيطان: أحرك فيها من أجلك.
Unknown page