لست في ما أكتب الآن مبشرا، ولا مقرعا منذرا، وليس في قصدي النظر إلى الصوم من وجهته الدينية، ولا من وجهته الصحية، كلمتي هذه تمليها علي نفس متألمة متوجعة، من القلب هي لا من الرأس، فإذا دعوت السوريين إلى الصوم يوما واحدا كاملا فذلك لأنبه فيهم العطف والحنان، فيشعرون بما يقاسيه إخواننا في الوطن.
البعد جفاء، وما لا تراه العيون لا ترثي له القلوب. في مدن سوريا وفي سهولها، في قرى لبنان وأوديته وهضابه ألوف من إخواننا اليوم يقتاتون بالأعشاب، بل يسقطون في الطرق من الضنى، بل يموتون في البرية سغبا وجوعا، ونحن البعيدين عن هذا المشهد المريع قلما ندرك معنى ما فيه من البؤس والويل، قلما نشعر بحقيقة أهواله.
لذلك أقول: صوموا يوما واحدا فقط تعرفوا معنى الجوع، يوم واحد تحرمون فيه لذيذ العيش يدنيكم من أولئك البائسين المقضي عليهم بصوم طويل مهلك، المقضي عليهم بالموت جوعا، يوم واحد من التقشف يقربنا من الوطن، يقربنا من البلية الهائلة المخيمة عليه، فيحيي فينا الحنان، ويوقظ فينا عاطفة الإحسان.
وماذا يكلف هذا العمل؟ شيئا من العزم، وقليلا من الإرادة، احسب نفسك أيها السوري مضطرب المزاج تشكو تلبكا في المعدة فيصف لك الطبيب الحمية أو القليل من اللبن، أفلا تمتنع إذ ذاك عن الأكل عاملا بنصيحة الطبيب؟ احسب نفسك في بلاد من بلدان العالم المنكوبة اليوم، أفلا تضطر - إذ ذاك - أن تصوم؟
حكي أن يوسف لما ملك خزائن الأرض كان يجوع ويأكل من خبز الشعير، فقيل له: أتجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع.
وقد أنسانا الشبع الجائعين، حسبك يوما من التقشف تكفر فيه عن إحجام منك في سبيل البر وإهمال، حسبك يوما من الصوم يقيك - إن شاء الله - ألم الجوع وذله، فلو كنت في سوريا اليوم وقيل لك: إن إخوانك في المهجر لا يسمعون ولا يلبون نداءك فماذا كنت تقول؟ لو كنت أسيرا في الوطن اليوم أيها الغني فماذا يفيدك مالك وأنت لا تستطيع أن تبتاع به لوازم العيش؟ بل لو كنت من أصحاب السيادة والجاه هنالك وجاءك أمر الحكومة أن ادفع ألف ليرة عن بلادك، فإنك تدفعها صاغرا، وتراها تصرف في سبيل الظالمين العتاة من يجوعون اليوم إخوانا لك في الوطن.
إخوان لنا هنالك يعيشون اليوم في هولين؛ هول المشانق وهول المجاعة، الفقير يموت سغبا، والغني يموت رعبا، ونحن في هذه البلاد آمنون شر الاثنين يومنا زاهر وليلنا هني، لا رعب يحرمنا النوم ولا جوع يحرمنا صفاء العيش. ومع ذلك ترانا نتردد إذا جاءنا مستنجد باسم الوطن فنتعلل، وفي تعليلنا الرياء، ونبذل النصح، وفي نصحنا العار والبلاء. والحق يقال إن أماجد فينا لا يشعرون قطعا بما يقاسيه إخواننا في الوطن، قد خمدت فيهم المخيلة، اضمحلت قوة التصور، فلا عين لهم سوى تلك الظاهرة في رءوسهم، ولا بصيرة سوى تلك التي تنبهها فيهم أقرب الأشياء إليهم. إني أرتأي إذن أن يصوم كل سوري يوما واحدا كاملا ليذكر - إذ ذاك - الجائع، أجل، لنقتد ولو يوما واحدا بيوسف الصديق.
وللصوم فوائد جمة غير التي تعدها الكنيسة ويحددها الدين، على أني أقول للمتدين التقي: صم واسأل الله الفرج واليسر لإخوان لك في الشدة، وإلى الأديب أقول: صم تتنبه فيك المخيلة، وتنفتح فيك عين الروح، وإلى الغني أقول: صم تر الجائع ولو كان بعيدا عنك ألوف الأميال فترثي لحاله، وإلى المتألم من المعدة أقول: صم تبر، وإلى النهم الأكول أقول: صم يوما تتحقق النعمة التي أنت فيها، وإلى النساء أقول: صمن وحرضن الرجال على الصوم.
لا أريد أن أزعزع إيمان من آمن بالصوم والصلاة، ولا أن أدغدغ ريب مرتاب، فلكل طريقته أو بالحري قصده في الصوم، ولكل فائدة، إن الصوم من وجهة دينية مفيد، ومن وجهة علمية مفيد، ومن وجهة اقتصادية مفيد، ومن وجهة صحية مفيد.
وليس الغرض من مقالي هذا أن أذكر الجائع فقط، بل أريد أن يكون له من صومنا قليل من العون على جوعه، فإن ليوم الصوم الذي ينبغي أن يكون عموميا فائدة مادية كبرى، كل منا يصرف دولارا - في الأقل - على طعام يومه، دولارا نحرمه أنفسنا ونعطيه الجائع، فأية خسارة نخسر؟ إنما هو عمل جليل جميل مبتكر، فيه دليل واضح على قوة روحية فينا تدعمها الإرادة ويزينها رقيق الشعور والإحسان.
Unknown page