ولا يبالون من غي لمن سجدوا
لو سلم «كولمبوس» بالمقدر لما سافر سفرته العجيبة، وما أعظم تلك الثقة ثقته بنفسه ونتيجتها. ولو سلم أولئك الإنكليز القلائل بالقضاء، ورضخوا لمظالم حكومتهم لما هجروا بلادهم، وما أعظم نتيجة تلك الهجرة، جمهورية جديدة عظيمة! ولو سلم العلم بأحكام القضاء لكانت الأوبئة والأمراض تبيد سوريا وقبائل من البشر كل عام.
ومن العقائد التي تعلم السجود لغير الله ما هو مجحف بالفضيلة، مفسد للحقيقة الكلية المطلقة، كعقيدة الثواب مثلا والعقاب، فالجحيم يجعل الإنسان هلوعا قاسيا جبانا، والجنة والسماء تنسيانه واجباته في هذا العالم، وما رأيت ورعا أجمل من ورع من يمارس الفضيلة حبا بها ومن أجلها، أما عقيدة القضاء والقدر فهي المسئولة عن أكثر ما نحن فيه من الاستكانة والمذلة والخمود. «علي أن أفعل» فالمقدر للجماد ولما فينا من جماد، لا للعقل المفكر والنفس الخالدة، إن الأحوال الظاهرة لبنت الفكر، وإن الفكر لسيد الحوادث، من سعى سعيا جميلا في تكييفها لتوافق نزعات النفس السامية، ولتحقق آمال الفكر العالية؛ كان من الصالحين المقربين من الآلهة. وما يعترضنا في طلب الحقيقة، وفي تعشق صورة الكمال من جهل وتعصب وتقاليد وخرافات؛ فمن الشيطان هي، لا من الله. وعلينا أن نناهضها لنذللها ونستأصلها تماما.
قال إمرسون: «النفس الخالدة هي التي ترى الخلود في كل شيء، وتساعد في تكوين العالم.» وفي النفس مرآة إلهية تنعكس فيها صورة الكمال. وكل فكر جميل يصقلها وكل فكر خبيث يشوهها، علينا إذا أن نهجر أميالنا السيئة وآمالنا الباطلة ونزدريها إذا اعترضت الفكر الجميل في سيره وسعيه وجده. إن إرادة الإنسان إذا أدركها وروضها لعظيمة، ومتى بدأ يقول «علي أن أفعل أذن لي أن أفعل»، كما قال الفيلسوف «كنت» ويقرن بالعمل قوله، يتدرج إلى السيادة المطلقة في ممالك الحيوانات والنبات والأثير، وفي ما فوقها للنفس من ملك لا يحد.
لكل منا دائرة اجتماعية صغيرة يستطيع أن ينير فيها مصباح الفكر والحب والإرادة، ولكل منا سلسلة حوادث يتألف منها المهم في حياتنا الإصلاحية فيستطيع أن يكفيها لتوافق ما سما من أفكارنا وما سلم ورق من شعورنا، هذا إذا كانت لنا ثقة بأنفسنا فنعزز بالعمل الإرادة فينا.
لا بد من سقوط كل عقيدة، دينية كانت أو سياسية أو فلسفية من شأنها أن تبقي الإنسان في ضعفه وجهله وخموله، ولا بد من اضمحلال مذاهب وتعاليم ركنها الأول من الوهم والخرافة، ولا بد من نسخ كل شريعة لا يقرها العقل ولا يخضع لها الضمير. وما نهض بالأوربيين من مهامه الجهل والهمجية والاستعباد غير تحررهم من خزعبلات السياسة والأحكام، ومن قيود الخرافات والأوهام.
في جزيرة جاوى نوع من الشجر لا ينمو في ظله نبت ولا يعيش حيوان، شجرة في جذعها وأغصانها سم يسم تربتها وظلالها فتراها وما حولها من الأرض الجدباء كأنها واحة في قلب البادية. وهذه لعمري شجرة الخرافة، يزرعها أرباب الدين في النفس فيسمون فيها بالفضائل والأخلاق، وتمتد ظلالها إلى العقل وإلى القلب فتفسد فيهما الفكر والشعور. شجرة جذعها من الخوف وسمها من الجهل، وأغصانها من الأوهام، وثمارها - وإن كانت كبيرة جميلة - فكتفاح سدوم قلبها من رماد وكبريت! فمتى يتقلص ظلك في الشرق أيتها الشجرة السامة المهلكة؟ متى يستأصلك العلم من أنفس الشرقيين؟ ومتى يطرد هؤلاء الكهان الذين يرعونك بالتربية ويتاجرون بسمك وثمارك؟
نكذب العقل في تصديق كاذبهم
والعقل أولى بإكرام وتصديق
أولئك الذين يتاجرون بتفاح سدوم يفسدون في الناس عقيدة الإيمان الحقة، الإيمان سر القوى البشرية من عقلية وروحية وأدبية، الإيمان الحي الصادق يحرك صاحبه إلى المفاداة بالنفس والنفيس في سبيل الحق والشرف والعدل والحق والمجد والعلى. وفي سبيل العلوم التي تحبب هذه الفضائل إلى الناس، وفي سبيل الفنون التي تحيي فيها صورة الكمال. قديما كان النبي الكاتب الشاعر في الناس، وما كان يتهيب الموت إذا اعترضه في سبيله، فيسجل كلمته على أعداء الحق بل أعداء الله ولسان حاله يقول: على الدنيا السلام. فأين شبه الأنبياء في أدباء هذا الزمان وشعرائه.
Unknown page