الثورة
2
يد الانقلاب، وناموس النشوء والارتقاء روح الثورة، ولهذا الناموس الإلهي مظاهر قد تستغرب لتنوعها فيه، فهو عامل في الناس وفي الأشياء على السواء، في كل مكان وزمان، ولكن رد الفعل فيه يختلف ونتائجه تتنوع، المياه كلها واحدة أصلا، السحاب يسخن فيذوب فيسقط على الأرض ماء طهورا، ولكن مجاري المياه تختلف باختلاف التربة التي تسقط فيها، فيجري منها المالح والمعدني والقراح، فالعوامل التي تعمل خفية في الأشياء قلما يراها الإنسان، ولكنه يشاهد نتائجها التي تظهر في الأحايين فجأة فيكبرها ويدعوها ثورة وانقلابا. وما الثورة إلا سلسلة من حوادث خفية تتجسم في مظهر من مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية، الثورة شجرة جذوعها أعظم من فروعها وتربتها أقدم من سمائها. الثورة حادث خطير خمسه الأخير يظهر للعيان وأخماسه الأخرى خفية سرية. الثورة كلمة الله مجسدة في الأشياء، تجعل الجماد حيا، والحي نارا، والنار نورا، والنور حقا وعدلا ورقيا وسلاما.
كان الحديد جمادا فصار في الكور حيا، وساعة يدخل النار يبتدئ فيه تاريخ الثورة الطبيعي، وساعة يضعه الحداد على السندان ويرفع فوقه المطرقة يبتدئ فيها تاريخها العملي، فنراه بعدها حربة، أو مدفعا، أو معولا، أو سندانا. وكذلك الحجارة التي تصير كلسا، والكلس الذي يصير طينا، والطين الذي يصير جدرانا، والجدران التي تصير سجنا، والسجن الذي يصير عاملا حسيا بين الطبيعة والإنسان. كيف لا وهو الحلقة الأخيرة من سلسلة الثورة الطبيعية، والفصل الأول من تاريخ الثورة المدنية، وقس على ذلك في حوادث الاجتماع وفي مظاهر الطبيعة والأكوان.
إن الزلزال أقرب نتيجة إلينا من نتائج عناصر تحت الأرض ثائرة بعضها على بعض، وإن تفجر البراكين وتساقط الشهب وفيضان الأنهار نتائج ظاهرة حسية لسلسلة حوادث بعيدة الأسباب خفية. ولا أظن حادثا واحدا اجتماعيا أو طبيعيا أثر في تاريخ الأمم أو تاريخ الأرض تأثيرا كبيرا وكان منفردا في مفعولاته وعوامله عن بقية الحوادث أو منفصلا عن السابق واللاحق من مجاري النواميس الكلية الشاملة. في تاريخ الأرض مثلا أزمان بائدة تعرف بأزمنة الحجر والجليد والنحاس وغيرها، يفصل بعضها عن بعض حادث في الطبيعة خطير، ولكنه لا يفصلها - على ما أظن - تمام الانفصال. وإني لأجسر أن أقول - وإن كنت قصير الباع في هذا العلم - إن حوادث هذه الأزمنة سلسلة بعض حلقاتها خفية لا مفقودة، وقد أخفاها الحادث العظيم كما تخفي المرجانة في السلك مكانها. وقد يكون الحادث الخطير همزة وصل محيية لا همزة قطع مهلكة، فيحمل بذور الحياة من زمن إلى زمن، وينقل مبادئ الرقي من جيل إلى جيل.
وإن ناموسا كليا أزليا يغير في ماهية الحوادث إلى حد محدود ولا يتغير قطعا، تتفجر البراكين فتقذف بحممها خارجا فتغير تربة الأرض حولها، وقد تغير شكلها أيضا فتجعل السهول جبالا والجبال سهولا، ولكنها تقف عند هذا الحد ولا تتعداه، فلا تستطيع أن تجعل البحر أرضا أو الأرض ماء. والطوفان كالبركان لا يخرج عن ناموسه ولا يتعداه، فالمياه إذا طمت هدمت ودمرت، فتستحيل الأرض بحرا إلى حين، وقد تتغير تربتها وعمرانها، ولكن مركزها تحت الشمس لا يتغير.
والذي يصح في تاريخ الأرض والكائنات يصح في تاريخ الأمم والحكومات، فللثورة ناموس، وللناموس طريق، وللطريق منصات فيها عرائس تحمل شموعا يوقدها الله للناس وهي شموع الزعامة والهدى. والزعامة بدونها صوت ولا عين، وسيف ولا يد، والزعيم الكبير الصادق من سار إلى غرضه في نور تلك المنصات، فيحق أن يدعى - إذ ذاك - زعيم الناس ولا يجوز أن يدعى زعيم الثورة؛ ذلك لأن الثورة سنة والزعماء مسوقون بها عاملون لها، حاملون بنودها، مستمدون من أنوارها، كل على قدر طاقته. وإذا استطاع أكبر تمساح في النهر أن يوقف سيره أو يغير مجراه، وإذا استطاعت النسور أن تسد فوهة البركان أو تخمد ناره؛ يستطيع الزعماء في الثورة التأثير على ناموسها الذي هو روحها الحية الإلهية الأزلية.
في الأمس خطب اللورد مورلي في مجمع المؤرخين الذي التأم بلندرا - واللورد مورلي من نوادر أرباب السياسة والأدب والفكر في العالم اليوم - فقال إن للبداهة في السياسة تأثيرا كبيرا في تاريخ الأمم أي: أن رجلا عظيما في كلمة يرتجلها أو في عمل يعمله بداهة وعفو القريحة، يغير مجرى الحوادث التاريخية المهمة، قد يصح هذا في فروع الحوادث لا في أصولها، من من الزعماء كان أعظم في الارتجال من ميرابو؟ ومن من أرباب السياسة كان في البداهة والإقدام أعظم من بزمرك ؟ أما ميرابو فلو شاء إيقاف الثورة أو تحويل مجراها لما استطاع إلى ذلك سبيلا، ولو خدم بزمرك غير الوحدة الألمانية لما كان فيها سريا عبقريا. لو عمر ميرابو لاستطاع - في الأكثر - تلطيف فظائع الثورة الإفرنسية، ولو مات بزمرك قبل أن يتمم عمله لتممه بعده سواه.
في الحياة ناموس يعلو به النوابغ، ولكنهم لا يعلون عليه، وإن شجاعة الرجال، وفصاحة الزعماء، وبداهة السياسيين، تؤثر بظواهر الحوادث لا بجوهرها، وعندنا من تاريخ الدولة العثمانية برهان على ذلك قريب. هذه الثورة الأخيرة - وقد تسمونها دسيسة - أسقطت الوزارة الكاملية وأودت بحياة أحد زعمائها، فهل غيرت شجاعة أنور وأصحابه شيئا من جواهر الأمور؟ هل عززت شأن الجند؟ هل صانت شرف الأمة؟ هل فازت برد غارات العدو؟ هل خلصت أدرنه؟ هل ظفرت في الأقل بصلح شروطه أحسن للدولة من الشروط التي عرضت على الوزارة السابقة؟ ولو نهض صباح الدين وأنصاره غدا ودكوا الوزارة الحاضرة دكا أيتغير يا ترى من روح الحركة الفكرية الثورية شيء جوهري؟ لا لعمري! لو وفق العثمانيون إلى أكبر زعيم في العالم لما استطاع اليوم رد الطوفان، ولما استطاع اليوم سد فوهة البركان. •••
بعد هذه الإشارة الخصوصية التي ساقني البحث إليها أعود إلى عموميات الموضوع، قلت: إن للثورة ناموسا ثابتا في كل الأمم وفي كل الأزمنة، عوامله أكثرها خفية وبالأخص في أوقات السلم. ولا تنحصر هذه العوامل في الحكومة وفي السياسة فقط، بل هي حية محيية في كل دائرة من دوائر الحياة، بل في كل نفس بشرية راقية. ففي كل امرئ تحدث ثورات منه وعليه في ساعات من الحياة بوادهها أجمل ما فيها، فتلج في النفس أصوات تزعزع فيها المألوف، وتنزع منها شكيمة العادات، فتنقلها من فكر إلى فكر، ومن حال إلى حال. وهذا قسم من الحقيقة في سنة التطور؛ لأن الثورة لا تنحصر في الرجال بل نراها عاملة حتى في الأطفال، فالطفل الجائع يثور على أمه عندما تمسك عنه اللبن، حتى إذا أصاخت الأم لصراخه وأجابت طلبته يستحيل الجوع فيه شبعا، والصراخ غناء، هذه ثورة الطفل الطبيعية، وقد كللها النصر، أما إذا تغلبت شهوته على حكمة أمه فتثور عليه معدته فيدعى الطبيب - أي: الأجنبي - لينظر في أمره، وهذه ثورة أخرى طبيعية، سببها التفريط ونتيجتها التورط والفشل.
Unknown page