أجل، إن من أجمل ما فيه استهتاره في سبيل الحق والحقيقة، تمشى في الأرض سامد الرأس، عالي الهمة، أبي النفس، طاهر الذيل، مضطرم الفؤاد، بعيد النظر، صلب العود، شديد اللهجة، لا يدنو إلا من الفضل في الناس، ولا يلين لغير الحق في أعمال الناس.
رفع لواء التمرد على طغاة الزمان وأرباب الضلال والبهتان مذ دخل ميدان الفكر والعلم ولم يخفضه يوما في حياته، ولواؤه لواؤنا، حمله وحده بالأمس وستحمله الأمة - أمتنا - غدا. إن هذا السوري الكبير سئم مما في الأمة الشرقية من جهل وخمول، وجمود وسبات، فصرخ فيها صرخة مستنهض دوت في العالم العربي قاطبة، وسيردد صدادها كل أديب حر مسلما كان أو مسيحيا، وماذا يهم إذا كفروه وهو من مصابيح الأجيال المقبلة؟
قلت إن من رجال العلم والعرفان في الشرق من يبث روحه قولا وفعلا أكثر منه خطا ونشرا، ومع أن تآليف الشميل وحدها كافية لأن تجعل له مقاما ساميا عزيزا في الأمة العربية ففي حياته الفردية من المآثر ما يماثلها إن لم نقل يفوقها فائدة وفضلا، وعسى أن يفي هذا الباب من سيرة حياة فيلسوفنا الكبير من يباشر غدا تآليفها، فقد كان ولم يزل له سيادة على العقول غير السيادة التي تولدها التآليف، وقد كان ولم يزل له منزله في القلوب غير التي يحرزها النبوغ. شبلي شميل غرس طاهر غرسه الله في الناشئة العربية الجديدة، وسينمو بعد موته أكثر من نموه في حياته.
جرجي ديمتري سرسق
دفنت في الترب ولو أنصفوا
ما كنت إلا في صميم الفؤاد
على ضريحك أزهار من جنات الحب والبر جميلة، وفوق جثمانك نور من أنوار الله المقدسة الجليلة، وحولك قلوب تحترق اليوم بخورا فيتصاعد إلى السماء أمامك ويضمخ أعلاما أنارت لياليك وأيامك، كنت في الأمس للناس زعيما فأصبحت اليوم لربك كليما، قربك منه تعالى جهاد في سبيل الحق والبر والحرية، يندر مثله في بلادنا السورية.
أيها السادة
عاش فقيدنا حرا لا يعرف إلا الواجب سيدا، ومات حرا لا يعرف غير الله عميدا، عاش شريفا صادقا أبيا، ومات شريفا صادقا أبيا، عاش شجاعا ومات شجاعا؛ فقد رأيناه يبش لأصحابه ويحدثهم ضاحكا حتى في الساعة الأخيرة الرهيبة، وقد سمعناه في اليوم الأخير من حياته الدنيا يقول لطبيبه: يا حكيم في مكتبتي رسائل عديدة ينبغي النظر بها فقم أنت فيها مقامي.
وليست الرسائل هذه من أشغاله الرسمية بل هي مما كان يتوارد عليه دائما من المظلومين والبائسين، من اللاجئين إلى رحمة في فؤاده جمة، وعدل في صدره عميم، وأريحية لا تعرف التجهيم، أجل فقد كان قلبه بحرا تجري إليه أنهر من هموم الناس وشئونهم، وما رد يوما سائلا، وما كان إلى غير الحق والعدل مائلا.
Unknown page