Ray Fi Abi Cala

Amin Khuli d. 1385 AH
204

Ray Fi Abi Cala

رأي في أبي العلاء: الرجل الذي وجد نفسه

Genres

أنا إذا ما تساهلنا في كل ذلك، فعددنا هذه المرسلات المتفرقة آراء فلسفية، وتركنا الأدلة والاستدلال جانبا، ورحنا نعرف مذهب أبي العلاء، والوحدة الفلسفية التي تعنون مذهبه، فماذا نجد؟ إنك لتجهد في أن تعرف مذهب أبي العلاء فيما عرضت عليك من كثير قوله في الشئون الإنسانية؛ كالزهد، والجد، وحب الحياة، وكرهها، والمرأة، والزواج، والنسل، والعزلة وو ... إلخ، فلا تستطيع أن تخرج بشيء معين، فهو - كما رأينا وسمعنا - زاهد وكادح، منكر للزهد، وحاض على التنعم، وهو ناسك يتحسر على الشباب، وهو محرم النسل، يعده أفضل ما عملت في الدنيا، وهو معتزل منفرد، لو حبي الخلد فردا لما أحب في الخلد انفرادا وهو ... ثم هو ... فأين نضع بين الفلاسفة صاحب هذه المتقابلات التي شملت كل شيء تعرض له؟ وما مذهبه من هذه المتقابلات؟

3

خامسا:

إن الفلسفة إنما تتميز بتأثيرها على سلوك الفيلسوف، وعدم اختلاف قوله عن فعله، وهي بذلك تفترق عن العلم؛ إذ تطبع فلسفة الفيلسوف سلوكه، ولا كذلك يفعل العلم؛ فالفيلسوف الذي انتهى به الدرس الباحث إلى كذا من الرأي في الخلق والعمل، لا تجده يخالف هذا الذي ذهب إليه وانتهى به درسه، على حين ترى العالم الرياضي أو الميكانيكي مثلا، بوهيمي السلوك، مشوش العمل، مضطرب التناول، رغم ما وقف عليه حياته من دقة وضبط، وتحديد ونفاذ. وإنما نعني بالفيلسوف والعالم الأصيل منهما صاحب الصفة الكاملة فيهما؛ فالفيلسوف هو المفكر المتأمل الأصيل الذي يسخر قواه لمعرفة الوجود، ويتبع عمله رأيه، وليس هو متعاطي الفلسفة قراءة أو تعليما أو ترجمة أو نحو ذلك من اتصال قد تبعث عليه أناقة، أو طرافة، أو تلهية، أو تكاثر، أو نحو ذلك مما يقع للمتصلين بالفلسفة، والواصلين أنفسهم بها، أو الذين وصلتهم ظروف الحياة بها، فهؤلاء هم من لا نعنيهم إذا أشرنا إلى تأثير التفلسف على السلوك، وطبعه له، وتوجيهه إياه، فلا يشتبه الأمر في ذلك.

وهذا التأثير للفلسفة على السلوك مما لحظه مفلسفو أبي العلاء في هذا العصر؛ فعقد الأستاذ الدكتور طه حسين بك في كتابه «ذكرى أبي العلاء» فصلا عنوانه: هل أبو العلاء فيلسوف؟ أورد فيه تعريف الفيلسوف، وبين تحققه في أبي العلاء، وإليك قوله بيانا لفكرة تأثير الفلسفة على السلوك، فهو يقول:

مهما كان أصل هذا اللفظ في اليونانية، ومهما كانت معانيه عند المسلمين، فإنا نفهم منه رجلا درس

4

العلوم الطبيعية والإلهية والخلقية درسا علميا متقنا، وبسط سلطانها على حياته العلمية وسيرته الخاصة، فلم يكن تناقض بين هذه العلوم وبين أعماله، وكذلك كان الأقدمون من فلاسفة اليونان يفهمون هذا اللفظ؛ فالرجل الذي أتقن هذه العلوم، ولكن حياته تناقضها، فهو يعرف الفضيلة ويناضل عنها، ولكنه لا يصطنعها في سيرته، ليس بالفيلسوف عندنا الآن، وإنما هو عالم بالفلسفة، والرجل الخير يؤثر الفضيلة ويحرص عليها؛ لأن نفسه قد فطرت على ذلك من غير أن يكون متقنا لهذه العلوم ليس بالفيلسوف عندنا الآن. أيضا، وإنما هو رجل خير فحسب، فإذا جمع بين هذين الطرفين فأجاد الحكمة علما وعملا - أي بحث عن حقائق هذا العالم - وكانت حياته موافقة لنتائج بحثه، فهو الذي نفهمه في هذا الكتاب من لفظ الفيلسوف أو الحكيم.

وهذا الذي فهمه الأستاذ، وانتهى إليه من أن الفيلسوف بحث عن حقائق هذا العالم، وكانت حياته موافقة لنتائج بحثه، هو ما نريده هنا من الفيلسوف أو الحكيم، لكن الأستاذ تقدم بعد ذلك فيما يلي من هذا الفصل لإثبات هذه الصفة لأبي العلاء فقال:

إذا صح هذا فما قدمنا في المقالة الثانية من سيرة أبي العلاء وأخلاقه وحياته في منزله وبين الناس، ومن درسه للفلسفة في أنطاكية وطرابلس وبغداد، يدلنا على أنه قد كان فيلسوفا حقا، كما سيدلنا على ذلك درسنا «للزوميات». ا.ه. من (ذكرى أبي العلاء ص329-330، من الطبعة الأولى).

Unknown page