بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله رب العالمين، حمدا يرضي ربنا منا، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، صلاة ترضيهم عنا، وكل من ظلمنا.

قال في " المفاتيح ": (وأن لا قول للميتين، وإن لم يأتوا بشئ مبين) (1).

أقول - وأنا الأذل الأقل محمد باقر بن محمد أكمل -:

معنى عدم القول للمجتهد الميت، أن قوله ليس بحجة، وقد ثبت في علم أصول الدين أنه لا حجة إلا قول الله تعالى وحججه المعصومين (عليهم السلام)، ولذا اشترطنا العصمة في الحجج، وما جوزنا حجية قول من لا يؤمن من الخطأ، وكون ذلك شعارا في مذهبنا أظهر من الشمس، وأشهر من أن يخفى على مخالفينا في المذهب، فضلا عن الموافق.

وأدلتنا من العقل، والنقل (2) على ذلك متراكمة متظافرة، ومن غاية

Page 5

الظهور وافقنا جماعة من العامة، سيما الأشاعرة (1).

ومن قديم الأيام إلى حديثه امتلأت الطوامير، وتوافرت الأساطير من التشاجر بيننا وبين من خالفنا، حتى أن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) شغلهم وديدنهم كان المخاصمة مع خصمهم في ذلك، في حضور الأئمة (عليهم السلام) وغيبتهم (2) في الأعصار والأمصار، بل الأئمة (عليهم السلام) بأنفسهم كانوا يباحثون مع خصمهم (3)، ويلقنون الشيعة هذه المخاصمة، ويعجبهم مخاصمتهم في ذلك (4)، بل ربما يظهر أن ذلك عمدة السبب في الاحتياج إلى الحجة في كل زمان.

هذا كله مضافا إلى ما ورد في الكتاب والسنة متواترا من النهي عن العمل بغير العلم (5)، والعمل بالظن (6) والتقليد (7)، ولا شك أن قول المجتهد داخل في الكل، مع أن الأصل عدم حجية غير العلم، سيما في الأحكام الشرعية، لما فيها من الخطر العظيم، والضرر الجسيم، ولذا شددوا الأمر فيها غاية التشديد، وأكدوا نهاية التأكيد، كما لا يخفى على المطلع.

مع أن هذا الأصل مسلم عند الأخباريين والمجتهدين، حتى عند العامة أيضا (8)، ولذا في أصول الفقه في كل موضع يتمسكون بظن يطالبون بدليل

Page 6

حجيته، ولذا لا يرضون بثبوت حجية الإجماع من الظواهر من الكتاب والسنة، قائلين بأن الظواهر ليست بحجة ظاهرا إلا بدليل، ولا دليل سوى الإجماع، فيلزم الدور .. إلى غير ذلك مما لا يخفى على الماهر في أصول الفقه.

وأيضا، الحكم الشرعي ليس إلا ما صدر من الشرع، وحكم المجتهد صادر عن المجتهد، وهو ليس بشرع. نعم، في ظنه أنه من الشرع والظن لا يغني من الحق شيئا (1)، مع أن أحكامهم في الغالب متغايرة، بل متضادة، فلا يكون المجموع مظنونا.

وأيضا، حكم الشرع ليس إلا منه (2)، وظن المجتهد ليس إلا من المجتهد، مع كونه ظنا.

فكون أحدهما عين الآخر فاسد جزما، وكونه بحسب مكان الآخر شرعا ويكفي عوضا له يتوقف على الدليل.

وأيضا، لولا الدليل على كون ظن المجتهد حجة للعامي لكان مثل الظن الحاصل من الرمل والأسطرلاب وقول الفاسق الجاهل وقول النساء، ألا ترى أن النساء ربما يحصل لهن ظن من قول النساء أقوى من الحاصل من قول المجتهد؟! وكذا الرستاقي (3) من قول الرستاقي.. وهكذا.

وأيضا، كما قال الميت: إن الحكم كذا، قال: إن الميت لا قول له، فإن كان قوله حجة فقوله ليس بحجة، بل هو وسائر المجتهدين اتفقوا في ذلك، حتى أنهم

Page 7

ادعوا إجماع الشيعة على ذلك (1) [وأنه] من ضروريات مذهب الشيعة (2)، مثل حرمة العمل بالقياس، بل وربما صار ذلك من خصائص الشيعة، لأن جمهور العامة على خلاف ذلك (3)، من جهة قولهم بحلية القياس وقياسهم بين الميت والحي.

وعلى أي حال، إذا حصل الظن من قول ميت في نفس الحكم، حصل من قوله في عدم حجية قوله جزما، بل بطريق أولى بمراتب شتى، لو لم نقل بحصول اليقين له.

ولو فرض أن شاذا من المتأخرين منا وافق العامة، إذ لو لم يصر منشأ لزيادة اطمئنانهم بقول المعظم لم يصر منشأ للوهن (4) أصلا، وعلى فرض الوهن فالظن لا أقل منه، وعلى فرض ارتفاع الظن أيضا - مع أنه في غاية البعد - فالشك لا أقل منه، فمع الشك والتردد كيف يقلد بغير منشأ وحجة؟! وكيف يرجح قول الشاذ البعيد العهد المطابق للعامة على قول معظم القرباء العهد من صاحب الشرع (5)؟!

هذا كله إذا كان الشاذ حيا.

Page 8

وأما إذا كان ميتا، فنزيد على جميع ما ذكرنا، أن الاستناد إلى قوله مع كونه ميتا يتضمن دورا محالا واضحا.

فإن قلت: ما ذكره المصنف لعله بالنسبة إلى العامي الجاهل الغافل الغير المطلع بأقوال العلماء.

قلت: اشتهر من العلماء ما ذكرناه اشتهار الشمس، فاطلاع العامي على فتوى المجتهد الميت مع عدم اطلاعه على ما ذكرنا مما لا يكاد يتحقق.

سلمنا، لكن هذا ظن خطأ، من جهة عدم اطلاعه بحقيقة الحال، فلو كان مثل هذا حجة للعامي لكان الظن الحاصل له بخلاف فتوى الفقهاء - بل بضدها ونقيضها - من جهة جهله وغفلته وخطئه يكون حجة له، يجب عليه العمل به (1).

وبعد تجويز هذا وفتح هذا الباب، لا وجه لذكر المجتهد، ولا لاعتبار قوله حيا كان أو ميتا، بل يكون المدار على أي ظن وخيال حصل للعامي من أي جهة من الجهات، وإن كان من محض هوى النفس، أو تقليد المخالف أو الكافر، أو الرمل والأسطرلاب، أو غير ذلك، وفيه ما فيه.

وأيضا، الظن للمجتهد إنما هو ما دام [في] الحياة، وإلا فبعد الموت لا ظن، والظن في وقت لا يكفي لحين زواله (2)، ولذا لو ظن سابقا وانعدم ظنه في وقت لاحق، ويحصل له التردد والتوقف لا يجوز له العمل بظنه السابق، ولا لمقلده بعد اطلاعه على توقفه. نعم، قبل الاطلاع يكفي، لما سيجئ.

والحاصل، أن الحجة إنما هو حكم الشارع لا حكم المجتهد، وحكم المجتهد لو كان حجة ومحسوبا مكان حكم الشارع، إنما يكون لظنه أن حكمه حكم

Page 9