بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله رب العالمين، حمدا يرضي ربنا منا، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، صلاة ترضيهم عنا، وكل من ظلمنا.
قال في " المفاتيح ": (وأن لا قول للميتين، وإن لم يأتوا بشئ مبين) (1).
أقول - وأنا الأذل الأقل محمد باقر بن محمد أكمل -:
معنى عدم القول للمجتهد الميت، أن قوله ليس بحجة، وقد ثبت في علم أصول الدين أنه لا حجة إلا قول الله تعالى وحججه المعصومين (عليهم السلام)، ولذا اشترطنا العصمة في الحجج، وما جوزنا حجية قول من لا يؤمن من الخطأ، وكون ذلك شعارا في مذهبنا أظهر من الشمس، وأشهر من أن يخفى على مخالفينا في المذهب، فضلا عن الموافق.
وأدلتنا من العقل، والنقل (2) على ذلك متراكمة متظافرة، ومن غاية
Page 5
الظهور وافقنا جماعة من العامة، سيما الأشاعرة (1).
ومن قديم الأيام إلى حديثه امتلأت الطوامير، وتوافرت الأساطير من التشاجر بيننا وبين من خالفنا، حتى أن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) شغلهم وديدنهم كان المخاصمة مع خصمهم في ذلك، في حضور الأئمة (عليهم السلام) وغيبتهم (2) في الأعصار والأمصار، بل الأئمة (عليهم السلام) بأنفسهم كانوا يباحثون مع خصمهم (3)، ويلقنون الشيعة هذه المخاصمة، ويعجبهم مخاصمتهم في ذلك (4)، بل ربما يظهر أن ذلك عمدة السبب في الاحتياج إلى الحجة في كل زمان.
هذا كله مضافا إلى ما ورد في الكتاب والسنة متواترا من النهي عن العمل بغير العلم (5)، والعمل بالظن (6) والتقليد (7)، ولا شك أن قول المجتهد داخل في الكل، مع أن الأصل عدم حجية غير العلم، سيما في الأحكام الشرعية، لما فيها من الخطر العظيم، والضرر الجسيم، ولذا شددوا الأمر فيها غاية التشديد، وأكدوا نهاية التأكيد، كما لا يخفى على المطلع.
مع أن هذا الأصل مسلم عند الأخباريين والمجتهدين، حتى عند العامة أيضا (8)، ولذا في أصول الفقه في كل موضع يتمسكون بظن يطالبون بدليل
Page 6
حجيته، ولذا لا يرضون بثبوت حجية الإجماع من الظواهر من الكتاب والسنة، قائلين بأن الظواهر ليست بحجة ظاهرا إلا بدليل، ولا دليل سوى الإجماع، فيلزم الدور .. إلى غير ذلك مما لا يخفى على الماهر في أصول الفقه.
وأيضا، الحكم الشرعي ليس إلا ما صدر من الشرع، وحكم المجتهد صادر عن المجتهد، وهو ليس بشرع. نعم، في ظنه أنه من الشرع والظن لا يغني من الحق شيئا (1)، مع أن أحكامهم في الغالب متغايرة، بل متضادة، فلا يكون المجموع مظنونا.
وأيضا، حكم الشرع ليس إلا منه (2)، وظن المجتهد ليس إلا من المجتهد، مع كونه ظنا.
فكون أحدهما عين الآخر فاسد جزما، وكونه بحسب مكان الآخر شرعا ويكفي عوضا له يتوقف على الدليل.
وأيضا، لولا الدليل على كون ظن المجتهد حجة للعامي لكان مثل الظن الحاصل من الرمل والأسطرلاب وقول الفاسق الجاهل وقول النساء، ألا ترى أن النساء ربما يحصل لهن ظن من قول النساء أقوى من الحاصل من قول المجتهد؟! وكذا الرستاقي (3) من قول الرستاقي.. وهكذا.
وأيضا، كما قال الميت: إن الحكم كذا، قال: إن الميت لا قول له، فإن كان قوله حجة فقوله ليس بحجة، بل هو وسائر المجتهدين اتفقوا في ذلك، حتى أنهم
Page 7
ادعوا إجماع الشيعة على ذلك (1) [وأنه] من ضروريات مذهب الشيعة (2)، مثل حرمة العمل بالقياس، بل وربما صار ذلك من خصائص الشيعة، لأن جمهور العامة على خلاف ذلك (3)، من جهة قولهم بحلية القياس وقياسهم بين الميت والحي.
وعلى أي حال، إذا حصل الظن من قول ميت في نفس الحكم، حصل من قوله في عدم حجية قوله جزما، بل بطريق أولى بمراتب شتى، لو لم نقل بحصول اليقين له.
ولو فرض أن شاذا من المتأخرين منا وافق العامة، إذ لو لم يصر منشأ لزيادة اطمئنانهم بقول المعظم لم يصر منشأ للوهن (4) أصلا، وعلى فرض الوهن فالظن لا أقل منه، وعلى فرض ارتفاع الظن أيضا - مع أنه في غاية البعد - فالشك لا أقل منه، فمع الشك والتردد كيف يقلد بغير منشأ وحجة؟! وكيف يرجح قول الشاذ البعيد العهد المطابق للعامة على قول معظم القرباء العهد من صاحب الشرع (5)؟!
هذا كله إذا كان الشاذ حيا.
Page 8
وأما إذا كان ميتا، فنزيد على جميع ما ذكرنا، أن الاستناد إلى قوله مع كونه ميتا يتضمن دورا محالا واضحا.
فإن قلت: ما ذكره المصنف لعله بالنسبة إلى العامي الجاهل الغافل الغير المطلع بأقوال العلماء.
قلت: اشتهر من العلماء ما ذكرناه اشتهار الشمس، فاطلاع العامي على فتوى المجتهد الميت مع عدم اطلاعه على ما ذكرنا مما لا يكاد يتحقق.
سلمنا، لكن هذا ظن خطأ، من جهة عدم اطلاعه بحقيقة الحال، فلو كان مثل هذا حجة للعامي لكان الظن الحاصل له بخلاف فتوى الفقهاء - بل بضدها ونقيضها - من جهة جهله وغفلته وخطئه يكون حجة له، يجب عليه العمل به (1).
وبعد تجويز هذا وفتح هذا الباب، لا وجه لذكر المجتهد، ولا لاعتبار قوله حيا كان أو ميتا، بل يكون المدار على أي ظن وخيال حصل للعامي من أي جهة من الجهات، وإن كان من محض هوى النفس، أو تقليد المخالف أو الكافر، أو الرمل والأسطرلاب، أو غير ذلك، وفيه ما فيه.
وأيضا، الظن للمجتهد إنما هو ما دام [في] الحياة، وإلا فبعد الموت لا ظن، والظن في وقت لا يكفي لحين زواله (2)، ولذا لو ظن سابقا وانعدم ظنه في وقت لاحق، ويحصل له التردد والتوقف لا يجوز له العمل بظنه السابق، ولا لمقلده بعد اطلاعه على توقفه. نعم، قبل الاطلاع يكفي، لما سيجئ.
والحاصل، أن الحجة إنما هو حكم الشارع لا حكم المجتهد، وحكم المجتهد لو كان حجة ومحسوبا مكان حكم الشارع، إنما يكون لظنه أن حكمه حكم
Page 9
الشارع، فإذا انعدم الظن مع وجوده، أو انعدم هو، فلا يبقى ظنه قطعا، لأن بانعدامه انقطع العلاقة بينه وبين حكم الشارع، فبأي سبب يكون حجة ومحسوبا مكانه؟!
مع أن هذا استصحاب ضعيف.
فعلى القول بحجية الاستصحاب ربما لا يقولون بحجية مثله، مع أن الاستصحاب حجة إذا لم ينعدم موضع الحكم، وهنا انعدم، كما هو الحال في الاستحالة والانقلاب، وانعدامه من جهة أن الظن في الدماغ، والظنون صورة حاصلة فيه بالبديهة وبالوجدان، وهو متفق عليه.
وليس المراد مطابق المظنون، لأنه محتمل ليس إلا، بل رجحانه - أي الراجح - مع أن الأصل عدم تحقق ظن غير ما ذكر، وهو أقوى من ذلك الاستصحاب.
مع أنه على تقدير أن يكون للنفس ظن، فهو غير هذا الظن، وهذا انعدم يقينا، وكونه غيره يجئ مقامه خلاف الأصل أيضا، مع أن نفس الناطقة بعد الموت يحصل له اليقين أو لا يحصل، لا أنه يحصل له الظن، لأنه خلاف المعقول والمنقول.
بل عرفت مما تقدم أن قول غير المعصوم (عليه السلام) ليس بحجة أصلا، ولا شك أن المجتهد ليس بمعصوم، فلا يكون قوله حجة جزما، ولذا قال الأخباريون بعدم حجية قول غير المعصوم (عليه السلام) (1)، وفقهاء حلب أوجبوا الاجتهاد (2).
وأما المجتهدون، فهم وإن قالوا بحجية قول غير المعصوم (عليه السلام) في الجملة،
Page 10
لكن عنوا كون القائل مستجمعا لشرائط الاجتهاد ويكون حيا.
فقوله حجة على العامي، ومن لم يبلغ رتبة الاجتهاد فقط، لا على مجتهد آخر، ولا يقولون بحجية غير ما ذكر، بل يحرمونه ويدخلونه تحت المناهي وما ليس بحجة ولو لم يدلهم دليل على حجية القدر الذي قالوا بحجيته لكانوا يحرمون ذلك أيضا، ويجعلونه مثل ظن العامي، ويدخلونه تحت الأصل والعمومات والأدلة الدالة على عدم حجية قول غير المعصوم وحرمة العمل به.
بل في الحقيقة قول المجتهد ليس عندهم حجة أصلا، بل الحجة الأدلة الدالة على حجية القدر المذكور.
مثلا: شهادة العدلين، لو لم يدل دليل من الشارع على اعتبارها فيما جعلها الشارع معتبرة فيه لكان حالها وحال الظنون المحرمة - مثل الظن الحاصل من الرمل والنجوم أو قول الفاسق - سواء، بل ربما يحصل من الأمور المزبورة ظن أقوى.
فصار المعلوم أن الحجة هو حكم الشارع ودليله، فإن الحكم الشرعي هو حكمه باعتبارها لا ما شهدوا به.
وإذا ظهر لك ذلك، نقول: العامي لا بد له أن يعتقد رضا الشرع بتقليد المجتهد، وجعل ظنه محسوبا مكان شرعه الذي هو الحق اليقيني، وبديهي أن ذلك لا يحصل له من نفس تقليد المجتهد، لما فيه من الدور المحال الواضح، فمستنده ليس إلا ما حصل له بالتظافر والتسامع المتعين بأن غير الفقيه عليه أن يرجع إلى الفقيه في حكم الشرع، كما هو الشأن في جميع العلوم والصناعات التي يتوقف عليها نظم المعاد والمعاش أن غير أهل الخبرة يرجع إلى أهل الخبرة فيها بلا شبهة، وأن مدار المسلمين في الأعصار والأمصار كان على ذلك بالبديهة.
Page 11
وبالجملة، حصل له من التظافر والتسامع في التقليد ما حصل له في ضروريات الدين والمذهب التي ليس فيها تقليد واجتهاد بل المجتهد والمقلد فيها على حد سواء.
وحصول البداهة للعامي في جواز تقليد الميت بعد ما اشتهر ما نسب إلى الشيعة اشتهار الشمس، كما ترى (1).
إذا عرفت ما ذكرنا، لم يخف عليك أن اللازم على المصنف كان المطالبة بدليل حجية قول المجتهد الحي أيضا أو الإتيان به، لا المطالبة بدليل عدم حجية قول الميت الذي هو غير المعصوم، مع أن الأصل عدم حجية [قول] كل أحد، لا حجية قول كل أحد، حتى أنه يطالب بما يطالب منه.
فإن قلت: لعل مراده أن ما دل على حجية قول المجتهد يشمل حيه وميته، فلم أخرجوا قول الميت، مع أنه ليس لهم مخصص مبين؟!
قلت: مع كون ما ذكرت خلاف ظاهر قوله! سلمنا، لكن نقول: كيف يمكن للعامي الاحتجاج بعموم ما دل على جواز التقليد على تقدير تسليم العموم؟، وسيما أن يستدل به على بطلان ما نسب إلى الشيعة وظهر منهم، ويطمئن به، ويقلد شرعا، فإن الآية والأخبار الدالة على ذلك معركة الآراء بين الفقهاء، ولذا أنكر جواز التقليد جماعة منهم، والمقرون اتفقوا على عدم الجواز بالنسبة إلى الميت، مع أن حجية خبر الواحد وظاهر الآية معركة للآراء، ومع ذلك المراد ماذا، أيضا معركة، ومع ذلك ورد في الآيات والأخبار حرمة التقليد وذمه مطلقا (2).
Page 12
نقول: أي عموم دل على ذلك؟!
أما الآية (1) والأخبار (2).
فالقدر الذي يفهم منها ويتبادر هو الحي. وأما أزيد، فلا وثوق في دلالتها عليه، لأن المتبادر منها أن ما أفتى به الفقيه واعتقد أنه حكم شرعي يجوز أخذه منه ما دام هو مفت به ومعتقد، بل يجب أخذه منه، ومع ذلك المتبادر منها أن جواز الأخذ ووجوبه إنما هو على من عرف أنه فقيه وحكمه من الشرع، لا من لم يعرف ذلك ولم يعتقد أنه حاكم الشرع، فلذا لم يكن فتواه حجة على من لم يعرف ذلك ولم يعتقد، وكذا الظاهر أن فتواه حجة على من لم يعرف ذلك الحكم من الشرع، فلذا لم يكن حجة على فقيه آخر.
فحيث عرف أن المتبادر منها هو القضية العرفية، كما هو مسلم عند جميع العلماء في كل ما ماثله من القضايا، ولذا لو أظهر الفقيه - بعد ما أفتى به - أن ظنه واعتقاده زال وحصل له التوقف لم يكن ظنه السابق - الذي زال - حجة عليه، فلا يكون حجة على من قلده، بعد ما اطلع على ما قال من أن اعتقاده زال، مع أن من هذا القول لا يحصل - غالبا - أزيد من الظن، فما ظنك بصورة حصول اليقين بأن ظنه زال، كما عرفت؟! فكيف يكون ظنه السابق داخلا في الآية والأخبار؟!
هذا، مضافا إلى أن المتبادر من لفظ الفقيه والحاكم وأمثالهما هو الحي، ولذا تمسك أهل السنة بالقياس، ورده الشيعة بأنه قياس مع الفارق وبسطوا الكلام في ذلك، فتوهم غير المطلع أن ما بسطوه إنما هو دليلهم ومستندهم وبه حكموا
Page 13
بالحرمة، كما يشير إليه كلام المصنف (1).
وأما الإجماع، فقد نقل الإجماع على منع حجية قول الميت (2)، وهذا هو الظاهر من فتاوى المعظم، ونسب ذلك إلى الشيعة، وعد من ضروريات دينهم، كحرمة القياس، نسبه إلى الشيعة من هو في أعلى درجة الاطلاع (3)، فلو لم يثبت الإجماع على المنع فكيف تثبت الحجية؟!
نعم، المشهور عند العامة حجية قول الميت أيضا (4)، قياسا على الحي.
بجامع مظنونية الإصابة، وهذا - مع كونه قياسا - قياس مع الفارق، لما أشرنا إليه من أن الميت لا ظن له.
وربما اعترض بأن المجتهد الغائب يجوز أن يكون رأيه تغير، فكذا الميت، ولا يخفى أن هذا الاعتراض في غاية السخافة، لأن المراد بالاعتراض إن كان قياس الميت بالغائب..
فأولا: إن القياس عندنا حرام، وقد عرفت أن قول المجتهد من حيث إنه قوله ليس بحجة، حتى يجوز أن يجعل جامعا، بل الحجة هو ما دل على اعتباره، فعلى أي قدر تتم الدلالة نقول به، وأما الزائد عنه فلا، لعدم الدليل، والغائب داخل في الدليل دون الميت.
بل لو أعتبر مجرد احتمال تجدد الرأي مانعا، لم يكد يتحقق قول معتبر للمجتهد، إلا ما شذ، وحمل الأدلة والألفاظ على الفروض النادرة كما ترى.
Page 14
وثانيا: إن القياس - مع كونه حراما عندنا - قياس مع الفارق، لما عرفت، ولأن الغائب مظنون البقاء على حاله، ومستصحب ظنه حتى يثبت خلافه، وهذا استصحاب في موضع الحكم الشرعي، مسلم عند الأخباريين أيضا (1)، بخلاف الميت، فإن موضوع الاستصحاب انعدم.
مضافا، إلى أنه لا شك في زوال الظن، وانحصر الاحتمال في عدم حصول اعتقاد، أو حصول اليقين بالصواب أو اليقين بالخطأ، والاستصحاب هو الحكم باستمرار ما علم ثبوته، حتى تيقن الانقطاع، وقد حصل الانقطاع، لأن ما علم وجوده ليس إلا الظن، وهو ليس إلا صورة حاصلة في الذهن بالوجدان والبداهة، ومسلم عند الكل، وبعد الموت تغير الذهن جمادا لا حس له، فكيف إذا صار ترابا؟!
وأما أنه حصل للروح هذه الصورة، فباطل بالأدلة العقلية، ومسلم عند العارف.
نعم، يحتمل عنده أن يكون بعد الموت تنكشف له الأمور، كما هي، وهو مخالف للأخبار ولا ينكشف له إلا ما كشف الله له، وهو الموافق لها، وهو الحق عند من قال بأن الروح ليس من المجردات، وهذا هو المنسوب إلى الشيعة.
ومع أن الانكشاف ليس إلا العلم جزما، والعلم مغاير للظن بالبديهة، فما علم وجوده - وهو الظن - حصل اليقين بزواله، وما حدث بعده لا شبهة بأن الأصل عدمه حتى يثبت، وقد عرفت أنه إن كان يثبت فلا شك في أنه غير ما علم وجوده.
والاستصحاب ليس إلا استمرار ما علم وجوده لا غير، بالبديهة، والغير
Page 15
- على فرض الثبوت - يحتمل الموافقة لما ظنه والمخالفة له.
والاحتمالان على حد سواء بلا شبهة، وعدم ضرر الاحتمال إنما هو من جهة الاستصحاب، وقد عرفت عدمه قطعا.
وأما بعد الانقطاع، فهل حدث أمر، أو ما حدث؟ وعلى تقدير الحدوث، يكون الحادث ماذا، هو أمر آخر لا دخل له في الاستصحاب.
وأيضا، المجتهد بالموت يخرج عن قابلية التكليف، والمجتهد الخارج عنها ليس قوله حجة أصلا، فلا يمكن القياس من هذه الجهة أيضا.
وأيضا، ظن المجتهد ما لم يكن حجة على نفسه لم يكن حجة على غيره، لأن كبرى قياسه: أن ما حصل به ظني فهو حجة الله في حقي وحق مقلدي، ولم يثبت حجية ظن منه سواه، وبالموت لا يكون حجة على نفسه، فكيف على غيره؟!
فلا يمكن القياس من هذه الجهة أيضا، بل المتبادر من الأخبار ليس إلا أن الفقيه هو الأصل والمقلد فرعه، فكيف يزيد الفرع على الأصل؟! فتأمل الأخبار والآية!
فإن قلت: من جملة الأدلة التي استدلوا بها على حجية قول المجتهد، هو قضاء الضرورة (1)، فلعله يشمل ما نحن فيه.
قلت: كيف يمكن دعوى قضاء الضرورة بعد الإحاطة بما ذكرنا بالنسبة إلى قول الميت؟!
فإن قلت: لعل مراده، أن قول المجتهد إذا كان موافقا لدليل شرعي - بأن أخذه منه - يكون حجة، لكونه حقا وصوابا، ولا فرق في ذلك بين حيه وميته،
Page 16
كما أنه إذا لم يكن مأخوذا من دليل شرعي ومطابقا له لا يكون حجة مطلقا - حيا كان أم ميتا - لكونه خطأ.
قلت:
أولا: إنه خلاف مقتضى عبارته، حيث أنكر المخالفة بين الحي والميت مطلقا، لا أنه جعل المعيار الإصابة وعدمها على حسب ما قلت.
وثانيا: إنه لا شك في أن المجتهد إذا حكم بشئ يكون في اعتقاده أن حكمه ذلك مطابق للدليل الشرعي، ومأخوذ منه، وإلا لا يحكم به قطعا، إلا أنه - من حيث عدم كونه معصوما - يجوز خطأ ما اعتقده، وكذا الأدلة لما كانت غالبها ظنيا لا يؤمن فيها الخطأ.
فإن أردت من الحقية والصوابية بالنظر إلى الحكم الظاهري، فحكم المجتهد دائما حق وصواب، لأنه بعد استفراغ الوسع وبذل الجهد حصل له العلم الذي فهمه، و * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (1)، فإنه استحصل جميع شرائط الاجتهاد، التي هي شرائط أخذ الحكم الشرعي، من حيث إن كل شرط من تلك الشرائط له مدخلية في أخذ الحكم وفهمه واستيثاقه، وعدم الخطأ مهما أمكن، مدخلية واقعية أو احتمالية، فإنه لو لم يستحصل شرطا من تلك الشرائط وتحقق الخطأ في أخذه لعله يكون مقصرا غير معذور، وأما بعد استحصال الجميع لو تحقق الخطأ لا شك في كونه معذورا، إذ الخطأ - حينئذ - من أمر لا يكون تحت اختياره.
والقول بأنه يترك حينئذ جميع الأحكام الفقهية من حيث إنه يجوز أن يكون خطأ فاسد قطعا، لأنه مخالف لضروري الدين وما ثبت من الأخبار
Page 17
المتواترة من بقاء أحكام الشرع النبوي في أمته إلى يوم القيامة (1)، مع أنه يجوز أن يكون تركه أيضا خطأ، فكيف يترك؟ سيما وأن الراجح أنه خطأ، بل القطعي.
والقول بأنه يترك حينئذ ما ظهر لديه أنه حكم الله ويعمل بغيره وهو الذي ظهر عنده أنه ليس حكم الله، فساده أيضا واضح.
فتعين أن يكون حكم الله الظاهري في حقه هو الذي فهمه، وظهر لديه أنه هو، فيكون صوابا دائما وإن احتمل الخطأ بالنسبة إلى الحكم الواقعي.
ومن أراد أوضح مما ذكرنا، والشرح التام والبسط البالغ، فعليه برسالتنا في الاجتهاد والأخبار (2).
فإن قلت: إذا لم يمكن الاحتياط، فالأمر على ما ذكرت، وأما إذا أمكن، فعليه الاحتياط، لا الأخذ بما يترجح لديه.
قلت: فيما يتأتى فيه الاحتياط يحكمون فيه بالاحتياط، إلا أنه ظهر لديهم أن الاحتياط ليس بواجب إلا في مواضع خاصة، وأما في غيرها فمستحب.
حكموا بما ظهر لديهم، لما ظهر عندهم من تحريم الحكم بخلاف حكم الشرع، وقد ظهر لهم أن حكم الشرع عدم الوجوب، فكيف يمكنهم الحكم بالوجوب والإلزام بالالتزام في العمل؟!
ولذا اتفق المجتهدون والأخباريون على وجوب الاحتياط حينئذ، والباقون على العدم.
وبالجملة، هذا أيضا نوع اجتهاد، والمسألة اجتهادية.
وإن أردت الحقية والصوابية بالنظر إلى الحكم الواقعي، فهو عبارة أخرى
Page 18
عن اشتراط العصمة في المجتهد، وعدم العمل بالأدلة الظنية، وسد لباب الأحكام الفقهية، ومع ذلك ترجع إلى أن المجتهد قوله ليس بحجة أصلا، لا أنه حجة مطلقا سواء كان حيا أو ميتا.
وثالثا: إن المعتبر على ما ذكرت هو الدليل الشرعي والمطابقة له، فالعامي أيضا لو وافق قوله الدليل يكون حجة، بل الفاسق، بل الكافر، بل الذاهل، بل الهازل، بل النائم، بل السكران، بل المجنون، بل الذي يقول بقول عنادا، أو رد قول الله ورسوله فاتفق الموافقة.
والحاصل، أن الاعتبار لو كان بالدليل الشرعي والموافقة له (1)، فالأمر على ما ذكره من عدم الفرق بين الحي والميت، لأن الدليل الشرعي لا يموت أبدا، بل هو حجة مطلقا - يموت القائل بالقول الموافق له أم لا يموت -.
فإن جعلت حجية قول المجتهد عبارة عن الموافقة للدليل، فالأمر على ما ذكرنا من عدم الفرق بين المجتهد وغيره ممن أشرنا.
وكذا لو جعلت علة الحجية هي نفس تلك الموافقة، لعدم جواز تخلف المعلول عن العلة.
وإن جعلت علة الحجية كونه ظن المجتهد، أو جعلته جزء العلة، فلا وجه للحكم ببقاء الحجية بسبب بقاء الدليل الشرعي وحجيته، إذ لا كلام ولا تأمل لأحد في بقاء الدليل وبقاء الحجية، وقد أشرنا إلى أن موت المجتهد ينفي ظنه، بل قد عرفت أن مع فرض بقاء ظنه لا يكون حجة.
ورابعا: قد عرفت أن المراد بحجية قول المجتهد حجيته على نفسه وعلى مقلده خاصة.
Page 19
أما المجتهد الآخر والعامي الذي لا يعتقده، فلا، لعدم ظهور اجتهاده عنده، واعتقاده فسقه (1)، أو غير ذلك، ولم يقل أحد بكونه حجة على المجتهد الآخر وعلى ذلك العامي، بل لم يجوزه عاقل.
وما ذكرت لو تم يقتضي حجيته مطلقا، إذ لا معنى لأن يكون القول حقا وصوابا ولا يكون حجة، فكما أن الصوابية والحقية تنافيان الخروج عن الحجية في وقت من الأوقات، فكذا تنافيان الخروج عن الحجية بالنسبة إلى شخص من الأشخاص، إذ الحق حق والصواب صواب، فتأمل .
وخامسا: إن العامي من أين يعرف أن قول المجتهد مأخوذ من الأدلة الشرعية وقول مجتهد آخر غير مأخوذ من الأدلة، حتى يأخذ بالأول دائما ولا يأخذ بالآخر دائما؟!
وأما المجتهد، فليس قول المجتهد حجة عليه أصلا، مع أنه إذا عرف الموافقة للدليل عرف الدليل قطعا، فلا وجه للاحتجاج بقول الفقيه حينئذ، مع أنك قد عرفت أن قول الفقيه في نفسه ليس بحجة، لأنه غير معصوم، ومجرد الموافقة للدليل لا يجعله دليلا آخر، بل هو غير حجة - وافق الحجة أو لا - فلو كان هذا سببا للحجية يكون [قول] العامي والفاسق والكافر وغيرهم مما أشرنا حجة أيضا، مع أنه في الحقيقة اجتهاد منه لا تقليد منه للميت.
فإن قلت: يجوز للعامي أن يستفصل حال مجتهد من مجتهد آخر.
قلت: مع أنه حينئذ يكون مقلدا للمجتهد الآخر - لا الأول - من أين يعرف أن المجتهد الآخر ما أخطأ؟ سيما وأن يكون الأول أشهر وأعرف منه، وأما
Page 20
إذا كان الآخر أشهر وأعرف، فلا ينفع أيضا، لأنه ليس بمعصوم، وبناء الكلام على الموافقة للأدلة واقعا، حتى يكون حيا وحجة دائما، على حسب ما قد عرفت، وإلا فعند العامي أن المجتهد قوله مأخوذ من الأدلة، فكيف يجعل تقليده موقوفا على الاستفصال؟!
فإن قلت: إذا كان عند العامي أن قول المجتهد مأخوذ عن الأدلة الشرعية، يعمل به وإن كان ميتا، إذ الموت والحياة لا مدخلية لهما في المأخوذية.
قلت: ليس الكلام في صحة كل فعل للعامي، بل فيما يصح للعامي أن يفعله، وإلا فالعامي يقلد العوام أيضا، حتى النساء بزعمه أنه عن الشرع وأنه حق.
فإن قلت: الأمر بالنسبة إلى العامي والمجتهد كما ذكرت، لكن العالم الفاضل الذي لم يبلغ درجة الاجتهاد من جهة أنه لم يستحصل جميع شرائطه، يمكن له أن يعلم أن قول المجتهد موافق للدليل وقول آخر غير موافق له، فيقلد الأول دائما ولا يقلد الآخر دائما.
قلت: مثل هذا العالم إن كان معتقدا لعدم جواز الاجتهاد والفتوى ما لم يجتمع شرائط الفتوى جميعا، لا جرم يكون عارفا بأن اعتبار تلك الشرائط ليس إلا لأجل صحة الفهم وصوابيته والاحتراز عن الخطأ، وأن مع عدم تلك الشرائط واستجماعها لا اعتداد بذلك الفهم، ولا وثوق ولا اعتماد، ومع ذلك يكون الاعتماد عليه حراما البتة، مع أنه يعتقد أنه غير مستجمع لجميع تلك الشرائط، ولأجل ذلك يقلد ولا يجتهد، ومع ذلك يعتقد أن المجتهدين اللذين هو يصير حكما بينهما كليهما مستجمعان لجميع تلك الشرائط.
ومع جميع ذلك كيف يتأتى له أن يحكم بأن مجتهدا مصيب واقعا ومجتهدا
Page 21
خاطئ واقعا؟! سيما وأن لا يجوز الخطأ على نفسه في ذلك، مع اعترافه بعدم تحقق ما هو شرط في صحة الفهم وصوابيته وبالخطأ بالنسبة إلى المستجمع لشرائط الصحة والصوابية، أو يجوز الخطأ على نفسه لكن يحكم حكما تاما بأنه مكلف بفهمه، مع اعترافه بعدم صحة فهمه وحرمة العمل به، لعدم استحصاله لشرط الصحة.
مضافا إلى أن مسألة تقليد الميت - مع المخالفة للمعروف المشهور بين الشيعة والأدلة القاطعة الواضحة التي أشرنا إليها - كيف يجترئ بالاجتهاد في تجويزه مع اعترافه بعدم بلوغه درجة الاجتهاد، سيما بالتفصيل الذي لم يقل به أحد من فقهاء المسلمين؟!
نعم، هو من غفلات بعض الغافلين من المتأخرين (1)، صدر عنهم في بادئ نظرهم من غير تأمل وتدبر أصلا، إذ مفاسده ليست بحيث تخفى على من له أدنى تأمل وإن لم يكن من العلماء.
وإن كان مثل هذا العالم غير معتقد بشرائط الفتوى والاجتهاد (2)، لا جرم لا يكون من المجتهدين، ولا المقلدين لهم في ذلك.
فإما أن يكون من الأخباريين، فهم يحرمون التقليد مطلقا، فكيف تقليد الميت؟!
وإما أن لا يكون من المجتهدين ولا الأخباريين، فمع ثبوت فساد مذهبه وطريقته وعقيدته مما ذكره المجتهدون في موضعه وما ذكره الأخباريون - أيضا - في موضعه، فإن (3) الكل يبرؤون (4) منه، نقول: إن كان عرف الأدلة وموافقة
Page 22
الفتوى لها، فلا وجه حينئذ لتقليده ورفع اليد عن الأدلة، بل حاله حينئذ حال المجتهد، فما قلنا في المجتهد جار فيه أيضا، حتى أنه في الحقيقة ليس تقليدا للميت، بل عين الاجتهاد منه، لو صح.
وكذا ظهر حال استفصال العامي منه.
مع أنك قد عرفت أن التقليد في نفسه حرام، خرج تقليد الحي بالنسبة إلى العامي، وبقي تقليد الميت والحي بالنسبة إلى غير العامي داخلا في المنع، فمثل هذا العالم لو لم يكن حاله حال العامي لحرم عليه التقليد مطلقا، وعنده أنه مجتهد يصح اعتماده على فهمه ورأيه، فكيف يقلد ومن أي دليل؟!
نعم، الشأن في صحة معتقده وجواز بنائه عليه.
وإن لم يكن عرف الأدلة والموافقة (1)، فمن أين يعرف الإصابة؟! بل حاله حال العامي، وحكاية استفصاله من المجتهد قد مرت من أولها إلى آخرها، إلا ما استثناه من أن عند العامي أن المجتهد.. إلى آخره، إن لم يكن حاله حاله في هذا، لكن مع صحة رأيه عنده كيف يجوز تقليده للمجتهد؟! وكيف يرخص المجتهد - مثل هذا العالم - الاعتماد على رأيه في مسألة تقليد الميت؟! سيما مع ما فيها مما أشرنا، إلا أن تقليده فيها أيضا، فيكون حينئذ تقليدا بحتا.
فإن قلت: ورد في بعض الأخبار أمرهم (عليهم السلام) بايراث الكتب للأولاد (2).
قلت: لا خفاء في أن تلك الكتب كانت كتب الأخبار، ولا شك ولا نزاع في أن الأخبار لا تموت بموت الراوي، بل هي حجة دائما.
على أنه لا نزاع ولا تأمل في أن كتب الفتاوى أيضا تنفع نفعا عظيما للفقهاء،
Page 23
بل لا يكاد يمكن الاجتهاد إلا بملاحظتها، بل لا يمكن واقعا في الأزمنة الواقعة بعد غيبة الأئمة (عليهم السلام)، سيما أن يكون بعد عهدها، فإن معرفة الخلاف والوفاق، وكيفية فهم الفقهاء للأخبار وترجيحاتهم وجمعهم، ومعرفة الجرح والتعديل، والتقية وخلاف التقية، والشهرة بين الأصحاب، والشاذ النادر، والاصطلاحات وغير ذلك موقوفة على ملاحظتها، بل تنفع كتبهم للمتعلمين أيضا، إذ لولاها لم يمكنهم الدرس والتعليم، شكر الله سعي الفقهاء، حيث ضبطوا ونقحوا، وقربوا البعيد، وأسسوا وجمعوا ونظموا وفهموا، حتى أنا من أنفسنا نجد بالبديهة أن كتبهم لو لم تكن عندنا ولم نلاحظها ولم ندر ما قالوا، لم نتمكن من الفتوى أصلا، ومن قال:
يمكن، فهو متوهم بلا شبهة.
فإن قلت: لو لم يجز تقليد الميت وانحصر جواز التقليد في الحي، لهلك الناس في العصر الذي لا يكون فيه مجتهد، والقطر (1) الذي لا تصل أيديهم إلى المجتهد، وأنهم حينئذ ماذا يصنعون؟ فثبت أن عدم جواز تقليد الميت باطل، لأن مستلزم الباطل باطل.
قلت:
أولا: ما تقولون لو لم تكن كتب الفقهاء موجودة، أو كانت موجودة لكن لم يوجد من يفهم كتبهم؟ إذ فهم كتبهم على وجه الصحة والإصابة لا يكاد يتحقق للفضلاء، فضلا عن العوام، إذ تلاحظ الفاضل لا يصح فهمه كثيرا، على أن الذي يفهمها لا يكاد أن لا يعثر على خلافاتهم، مثل: أن الماء القليل هل ينجس بالملاقاة، وأن الكر ماذا.. وهكذا إلى آخر كتبهم، إذ لا يكاد يتحقق مسألة وفاقية لا تكون من ضروري الدين أو ضروري المذهب، والضروري لا
Page 24