لا جرم أن إطلاق ابن المقفع لسانه في المعتزلة دعا أحد أئمتها إلى أن يصدر عليه هذا الحكم الغريب، ولكن الجاحظ أيضا على ثبوت تدينه لم يسلم من هذا الطعن كما رأيت. وإن مسألة التهمة في الدين من الأمور التي شاعت في كل عصر ومصر، ويكون المتهمون بها في معظم الأحوال أبرياء، وإلا فكيف تسجل الزندقة على ابن المقفع إذا جرينا مع الدليل. وليست الزندقة بحثا عما يضمره الإنسان في نفسه؛ لأن مثل هذا لا يطلع عليه إلا الله تعالى، ويكفي أن يقال: هلا شققت عن قلبه، بل الزندقة التي تذكر في الكتب وتترتب عليها الأحكام. وسوغ أن يقال عن فلان إنه زنديق أمور تقوم عليها بينات ظاهرة من أقوال وأفعال، وكلام ابن المقفع في الدين يدل على شدة تمسكه وفرط ميله على ما يتجلى لك من رسائله. ولو كان ثم سبيل لما ينسب إليه، لا سيما مع غضب المنصور عليه؛ لكان الأقرب أن يتقرب مثل المنصور بمثل ذلك، وفيه ما فيه من إرضاء العامة وشفاء الغليل من العدو، بحيث ينتقم منه مع إسقاطه ولا يعدم المنصور حينئذ حيلة في قتله جهارا بهذه التهمة. أما اتهام ابن المقفع بمعارضة القرآن فيتصرف على القاعدة في اتهامه بالزندقة. وما نظن القاضي عياضا والباقلاني إلا ناقلين عن أناس من أهل السذاجة، ومع ذلك فإنهما قالا: إنه أناب.
التهمة بالزندقة أمر نشأت منه مضار كثيرة؛ حتى لم يخل منها مثل الإمام الغزالي الذي كان أعظم أنصار الدين، فانظر إلى كتاب: فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، الذي ألفه في الرد على أولئك الذين نسبوا إليه ما نسبوا؛ فإن فيه الغناء. وأغرب من ذلك المقال على أبي حاتم بن حبان البستي، إمام المحدثين في عصره، وصاحب الصحيح المشهور به، والكتب الممتعة الكثيرة واستحصال الأمر بقتله لو لم ينج من ذلك بعوارض لا تخطر في البال.
ومعارضة القرآن أكثر ما تنسب للزنادقة المشهورين بالأدب، وأفضل من يشيع ذلك أناس يقصدون إهلاك عدوهم بأي وسيلة كانت، أو أناس هم أقرب إلى الزندقة ممن ينسبون إليها؛ حتى إن أبا العلاء المعري، على اضطراب الأقوال في نهاية أمره مع ما علم به من أحواله، قد عزي إليه كتاب كان معروفا في بلاد المغرب يسمى بالفصول والغايات، ولا يتوقف من كان قريب العهد من عصره في أنه عمله في معارضة السور والآيات. وكان كثير ممن يميلون إلى أبي العلاء المعري من أهل المغرب يعجبون مما وقع فيه من سخافة القول الذي ينحط عن جميع كلامه المعروف، مع أنه ليس له يد في الكتابة، كما علم من كتاب سر الفصاحة، وكلامه في رسالة الغفران ينادي بخلاف ذلك.
وعلى الجملة؛ فإن نسبة الزندقة إلى ابن المقفع لا تثبت بوجه من الوجوه التي تعقل في إثباتها. وإذا نظرنا إلى ما يتعلق بالغيب؛ فالحكم الشرعي أنه هو والناسبون إليه جميعا في معرفة ما ينطوون عليه سواء؛ لأنه لم يذهب أحد إلى أن الإيمان أو لوازمه لرجل بعينه.
وتهمة الزندقة الشنعاء كثيرا ما يتهم بها المشتغلون بالفلسفة أمثال ابن رشد والفارابي، وابن الصائغ، وابن سينا، ونسب لهذا أنه عارض القرآن، وقد كتب رسالة في رد افتراء من افترى عليه ذلك. ومن هنا تظهر لك حسن سياسة المأمون؛ لأن فتح باب البحث عن الزنادقة قد أوجب من المضار ما لا يحصى، كما يعلم من التواريخ، وربما كان عصر المأمون أقرب إلى قلة الزندقة، في الحقيقة، من العصور التي كثر اتهام معظم المفكرين بها، وغيرهم ممن يراد الانتقام منه.
عرفت بهذا أن كلام القائلين بزندقة ابن المقفع، مع ما عرف من كلامه، هو من ذلك الباب. قال المرتضى في أماليه: روى ابن شبة، قال: حدثني من سمع ابن المقفع، وقد مر ببيت نار للمجوس بعد أن أسلم فلمحه، وتمثل:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل
حذر العدى وبك الفؤاد موكل
إني لأمنحك الصدود وإنني
قسما إليك مع الصدود لأميل
Unknown page