قال عبد الله بن المقفع - رحمه الله تعالى:
عمل البر خير صاحب، أحق ما صان الرجل أمر دينه، الآلف للدنيا مغتر، من ألزم نفسه ذكر الآخرة اشتغل بالعمل، المغبون من طلب ثواب الآخرة في الدنيا، القلب أسرع تقلبا من الطرف. أحسن العفو ما كان عن عظيم الجرم، الاعتراف يؤدي إلى التوبة، الإصرار وعاء للذنوب، الجواد من بذل ما يضن به، المتكلف لما لا يعنيه متعرض لما يكره، الفكر مفتاح القلب، الاستماع أسلم من القول، كمون الحقود، ككمون النار في العود، أكرم الأخلاق التواضع، التواضع يورث المحبة، الكبر مقرون به سوء الظن، من عذب لسانه كثر إخوانه، من استبعد الآخرة ركن إلى الدنيا، سرور الدنيا كأحلام النائم، المغبون من طلب الدنيا بعمل الآخرة، المصيبة العظمى الرزية في الدين، سرور الدنيا مخوف المغبة، من أهلك نفسه في مرضاة غيره عظمت جنايته، أنفع الكنوز العمل الصالح، أحق الناس بالبر أعلمهم بالعاقبة، من أبصر العاقبة فآثرها أمن الندامة، الوالي من وزرائه بمنزلة الرأس في أعضائه، من عرف ثمار الأعمال كان حقيقا ألا يغرس مرا، أهن دنيا بائدة تستكمل كرامة، أبقى الجروح مضضا جرح الآثام، ائت إلى الناس ما تحب أن يؤتى إليك، استصغر المشقة إذا أدت إلى منفعة، رأس البر الورع، اطلب الرحمة بالرحمة، خير الأعمال ما دبر بالتقوى، بالحزم يتم الظفر، من أحب التزكية تعرض للضحكة، الدنيا نوم نائم، والدولة حلم حالم، من سالم الناس ربح السلامة، ومن تعدى عليهم كسب الندامة، بادر لعمل الخير إذا أمكنك، من حصن سره أمن ضرر ذلك، الدنيا قد تدرك بالجهل كما تدرك بالعقل، أحسن العمل الصالح ما كان بصدق النية، خسر من أنفق حياته في غير حقها، طوبى لمن ترك دنياه لآخرته، من الحق على السلطان رفع ذي الفضيلة وأن يسد فاقته، لا تحمد نفسك على ما تركت من الذنوب عجزا، بالرسول يعرف قدر المرسل، رفق الرسول يلين القلب الصعب، لا رأي لمن انفرد برأيه، من ترك رأي ذي النصيحة اتباعا لما يهوى استوخم العاقبة، المشاورة أوثق ظهير، المستشار مؤتمن، اعتبر عقل الوالي بإصابته موضع أصحابه، من صحب السلطان لم يزل مروعا، كثرة أعوان السوء مضرة بالعمل «بالحزم يتم الظفر»، بإجالة الرأي تظفر بالحزم، استوجب الطاعة من ذوي الرأي بالمودة، الصنيعة عند الكفور لا تثمر إلا مرا، الملك الحازم من استمسك برأي الحزمة من ذوي الرأي، لا صلاح لرعية واليها فاسد، خير مستفاد الهدى، أكثر محادثة من يصدقك عن عيوبك، حلية الملوك وزراؤهم، أكمل النصحاء من لم يكتم صاحبه نصيحة وإن استقلها، فساد الوالي أضر بالرعية من جدب الزمان، استعن بالصمت على إطفاء الغضب، لا تجنين على نفسك عداوة وبغضة اتكالا على ما عندك من العمل والقوة والمنعة، كن في الحرص على معرفة عيبك بمنزلة عدوك في معرفة ذلك، البصير من عرف ضره من نفعه «التواضع يورث المحبة، أكرم الأخلاق التواضع، الكبر مقرون به سوء الظن»، ربما تحولت البغضاء مودة والمودة بغضاء، قرب الصالحين داع للصلاح «أحسن العفو ما كان عن عظيم الجرم» المال عون قوي على المروءة، وإنفاقه مهلكة المروءة، من عدم ماله أنكره أهله.
خير الملوك من يرى أنه لا يضبط ملكه إلا بالعدل بين رعيته، وأضيعهم الفظ المتهاون، لا يغتر الأقوياء بفضل قوتهم على الضعفاء، الضعيف المحترس من العداوة أقرب إلى السلامة من القوي المغتر، أخوف الأحقاد أحقاد الملوك، أبصر الوزراء من بصر صاحبا عيبه بالأمثال، من قل كلامه حمد عقله، من عرف قدره قل إفراطه، أحسن والدولة لك يحسن إليك والدولة عليك «كمون الحقود ككمون النار في العود» من حرم العقل رزئ دنياه وآخرته، آفة العقل العجب، الهم مرض العقل، احذر صولة اللئيم إذا أشبع، أحسن المدح أصدقه، الإحسان يقطع اللسان.
رسالة ابن المقفع في الصحابة
أما بعد ... أصلح الله أمير المؤمنين وأتم عليه النعمة وألبسه المعافاة والرحمة، فإن أمير المؤمنين - حفظه الله - يجمع مع علمه المسألة والاستماع، كما كان ولاة الشر يجمعون مع جهلهم العجب والاستغناء، ويستوثق لنفسه بالحجة ويتخذها على رعيته، فيما يلطف له من الفحص عن أمورهم، كما كان أولئك يكتفون بالدعة، ويرضون بدحوض الحجة وانقطاع العذر في الامتناع أن يجترئ عليهم أحد برأي أو خبر مع تسليط الديان، وقد عصم الله أمير المؤمنين - حين أهلك عدوه وشفى غليله، ومكن له في الأرض وآتاه ملكه وخزائنها - من أن يشغل نفسه بالتمتع والتفتيش والتأثل والإخلاد، وأن يرضى ممن آوى بالمتاع به وقضاء حاجة النفس منه، وأكرم الله أمير المؤمنين باستهانة ذلك واستصغاره إياه، وذلك من أبين علامات السعادة، وأنجح الأعوان على الخير، وقد قص الله - عز وجل - علينا من نبأ يوسف بن يعقوب أنه لما تمت نعمة الله عليه، وآتاه الملك وعلمه من تأويل الأحاديث، وجمع له شمله، وأقر عينه بأبويه وإخوته أثنى على الله - عز وجل - بنعمته ثم سلا عما كان فيه، وعرف أن الموت وما بعده هو أولى فقال:
توفني مسلما وألحقني بالصالحين (يوسف: 101).
وفي الذي قد عرفنا من طريقة أمير المؤمنين ما يشجع ذا الرأي على تناوله بالخبرة، فيما ظن أنه لم يبلغه إياه غيره، وبالتذكير بما قد انتهى إليه، ولا يزيد صاحب الرأي على أن يكون مخبرا أو مذكرا، وكل عند أمير المؤمنين مقبول إن شاء الله مع أن مما يزيد ذوي الألباب نشاطا إعمال ذوي الرأي فيما يصلح الله به الأمة في يومها، أو غابر دهرها الذي أصبحوا قد طمعوا فيه، ولعل ذلك أن يكون على يدي أمير المؤمنين؛ فإن مع الطمع الجد ومع اليأس القنوط، وقلما ضعف الرجاء إلا ذهب الرخاء، وطلب المؤيس عجز، وطلب الطامع حزم، ولم ندرك الناس نحن وآباؤنا، إلا وهم يرون فيها خلا لا يقطع الرأي ويمسك بالأفواه، من حال وال لم يهمه الإصلاح أو أهمه ذلك، ولم يثق فيه بفضل رأي، أو كان ذا رأي ليس مع رأيه صول بصرامة أو حزم، أو كان ذلك استئثارا منه على الناس بنشب، أو قلة تقدم لما يجمع أو يقسم، أو حال أعوان ينيل بهم، الولاة ليسوا على الخير بأعوان. وليس له إلى اقتلاعهم سبيل لمكانهم من الأمر، ومخافة الدول والفساد إن واجههم، أو انتقص ما في أيديهم، أو حال رعية متزرة ليس لها من أمرها النصف في نفسها؛ فإن أخذت بالشدة حميت، وإن أخذت باللين طغت، وكل هذه الخلائق قد طهر الله منها أمير المؤمنين، فآتاه الله ما آتاه في نيته ومقدرته وعزمه ثم لم يزل يرى ذلك منه الناس، حتى عرفه منه جهالهم فضلا عن علمائهم.
وصنع الله لأمير المؤمنين ألطف الصنع في اقتلاع من كان يشركه في أمره على غير طريقته ورأيه، حتى أراحه الله وأمنه منهم، بما جعلوا من الحجة والسبيل على أنفسهم، وما قوى الله عليه أمير المؤمنين في رأيه واتباعه مرضاته، وأذل الله لأمير المؤمنين رعيته بما جمع له من اللين والعفو؛ فإن لان لأحد منهم، ففي الإثخان له، شهيد على أن ذلك ليس بضعف ولا مصانعة، وإن اشتد على أحد منهم، ففي العفو شهيد على أن ذلك ليس بعنف ولا خرق، مع أمور سوى ذلك يكف عن ذكرها كراهة أن يكون كأنا نصبنا المدح، فما أخلق هذه الأشياء أن تكون عتادا لكل جسيم من الخير في الدنيا والآخرة واليوم والغد والخاصة والعامة، وما أرجانا لأن يكون أمير المؤمنين بما أصلح الله الأمة من بعده أشد اهتماما من بعض الولاة بما لا يصلح رعيته في سلطانه، وما أشد ما قد استبان لنا أن أمير المؤمنين أطول بأمر الأمة عناية، ولها نظرا وتقديرا من الرجل منا بخاصة أهله، ففي دون هذا ما يثبت الأمل وينشط للعمل - ولا قوة إلا بالله، ولله الحمد وعلى الله التمام.
فمن الأمور التي يذكر بها أمير المؤمنين - أمتع الله به - أمر هذا الجند من أهل خراسان؛ فإنهم جند لم يدرك مثلهم في الإسلام، وفيهم منعة بها يتم فضلهم، إن شاء الله، أما هم: فأهل بصر بالطاعة وفضل عند الناس، وعفاف نفوس وفروج، وكف عن الفساد وذل للولاة فهذه حال لا نعلمها توجد عند أحد غيرهم، وأما ما يحتاجون فيه إلى المنعة من ذلك فتقويم أيديهم ورأيهم وكلامهم؛ فإن في ذلك اليوم اختلاطا من رأس مفرط غال، وتابع متحير شاك، ومن كان إنما يصول على الناس بقوم لا يعرف منهم الموافقة في الرأي والقول والسيرة فهو كراكب الأسد الذي يوجل من رآه والراكب أشد وجلا، فلو أن أمير المؤمنين كتب لهم أمانا معروفا بليغا وجيزا محيطا بكل شيء يجب أن يقول فيه، ويكفوا عنه بالغا في الحجة قاصرا عن الغلو يحفظه رؤساؤهم حتى يقود به دهماءهم، ويتعهد به منهم من لا يؤبه له من عرض الناس لكان ذلك - إن شاء الله - لرأيهم صلاحا، وعلى من سواهم حجة وعند الله عذرا، فإن كثيرا من المتكلمين من قواد أمير المؤمنين اليوم، إنما عامة كلامهم فيما يؤمر الأمر ويرغم الرغم أن أمير المؤمنين لو أمر الجبال أن تسير سارت. ولو أمر أن تستدبر القبلة بالصلاة فعل ذلك، وهذا كلام قلما «يرتضيه» من كان مخالفا، وقلما يرد في سمع السامع إلا أحدث في قلبه ريبة وشكا، والذي يقول أهل القصد من المسلمين هو أقوى للأمر، وأعز للسلطان وأقمع للمخالف وأرضى للموافق، وأثبت للعذر عند الله - عز وجل.
فإنا قد سمعنا فريقا من الناس يقولون لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق، بنوا قولهم هذا بناء معوجا. فقالوا: إن أمرنا الإمام بمعصية الله، فهو أهل أن يعصى، وإن أمرنا الإمام بطاعة الله فهو أهل أن يطاع، فإذا كان الإمام يعصى في المعصية. وكان غير الإمام يطاع في الطاعة فالإمام ومن سواه على حق الطاعة سواء، وهذا قول معلوم يجده السلطان ذريعة إلى الطاعة والذي فيه أمنيته لئلا يكون للناس نظائر، ولا يقوم بأمرهم إمام، ولا يكون على عدوهم منهم ثقل.
Unknown page