اعلم أنه ستمر عليك أحاديث تعجبك، إما مليحة وإما رائعة، فإذا أعجبتك كنت خليقا بأن تحفظها؛ فإن الحفظ موكل بما راع، وستحرص على أن تعجب منها الأقوام، فإن الحرص على ذلك التعجب من شأن الناس. وليس كل معجب لك معجبا لغيرك، وإذا نشرت ذلك مرة أو مرتين، فلم تره وقع من السامعين موقعه منك فازدجر عن العود، فإن العجب من غير عجيب سخف شديد، وقد رأينا من الناس من يعلق الشيء، ولا يقلع عن الحديث به، ولا يمنعه قلة قبول أصحابه له من أن يعود، ثم يعود.
إياك والأخبار الرائعة وتحفظ منها ؛ فإن الإنسان من شأنه الحرص على الأخبار لا سيما ما راع منها، فأكثر الناس من يحدث بما سمع، ولا يبالي ممن سمع، وذلك مفسدة للصدق ومزراة بالرأي؛ فإن استطعت ألا تخبر بشيء، إلا وأنت به مصدق وألا يكون تصديقك إلا ببرهان، فافعل.
ولا تقل كما يقول السفهاء أخبر بما سمعت؛ فإن الكذب أكثر ما أنت سامع، وإن السفهاء أكثر من هو قائل، وإنك إن صرت للأحاديث واعيا وحاملا كان ما تعي وتحمل عن العامة أكثر مما يخترع المخترع بأضعاف.
انظر من صاحبت من الناس من ذي فضل عليك بسلطان ومنزلة، ومن دون ذلك من الخلصاء، والأكفاء والإخوان فوطن نفسك في صحبته على أن تقبل منه العفو، وتسخو نفسك عما اعتاص، مما قبله غير معاتب ولا مستبطئ ولا مستزيد؛ فإن المعاتبة مقطعة للود وإن الاستزادة من الجشع، وإن الرضا بالعفو والمسامحة في الخلق، مقرب لك كل ما تتوق إليه نفسك، مع بقاء العرض والمودة والمروءة.
اعلم أنك ستبتلى من أقوام بسفه، وأن سفه السفيه سيطلع لك منه؛ فإن عارضته أو كافأته بالسفه، فكأنك قد رضيت ما أتى به فاجتنب أن تحتذي مثاله؛ فإن كان ذلك عندك مذموما، فحقق ذمك إياه بترك معارضته، فأما أن تذمه وتمتثله، فليس ذلك لك.
لا تصاحبن أحدا وإن استأنست به أخا قرابة أو أخا مودة ولا والدا ولا ولدا إلا بمروة؛ فإن كثيرا من أهل المروة قد يحملهم الاسترسال، أو التبذل على أن يصحبوا كثيرا من الخلصاء بالإدلال والتهاون، ومن فقد من صاحبه صخبة المروة ووقارها أحدث له في قلبه رقة شأن وخفة منزلة.
لا تلتمس غلبة صاحبك والظفر عليه بكل كلمة ورأي، ولا تجترئن على تقريعه وتبكيته بظفرك إذا استبان، وحجتك إذا وضحت؛ فإن أقواما يحملهم حب الغلبة، وسفه الرأي في ذلك على أن يتعقبوا الكلمة بعد ما تنسى، فيلتمسوا فيها الحجة ثم يستطيلوا بها على الأصحاب، وذلك ضعف في العقل، ولؤم في الأخلاق.
لا يعجبنك إكرام من يكرمك لمنزلة أو سلطان؛ فإن السلطة أوشك أمور الدنيا زوالا، ولا يعجبنك إكرامهم إياك للنسب؛ فإن الأنساب أقل مناقب الخير غناء عن أهلها في الدين والدنيا، ولكن إذا أكرمت على دين أو مروءة فذلك فليعجبك؛ فإن المروءة لا تزايلك في الدنيا، والدين لا يزايلك في الآخرة.
اعلم أن الجبن مقتلة، وأن الحرص محرمة، فانظر فيما رأيت أو سمعت أمن قتل في القتال مقبلا أكثر أم من قتل مدبرا؟
وانظر أمن يطلب إليك بالإجمال والتكرم أحق أن تسخو إليك نفسك بطلبته، أم من يطلب إليك بالشره؟
Unknown page