فأما ابن عبد ربه القرطبي:
وإن بعدت عنك دياره، فقد صاقبتنا أشعاره، ووقفنا على أشعار صبوته الأنيقة، وتكفيرات توبته الصدوقة، ومدائحه المروانية، ومطاعنه في العباسية، وهو في كل ذلك فارس ممارس، وطاعن مداعس، واطلعنا في شعره على علم واسع، ومادة فهم مضيء ناصع، ومن تلك الجواهر نظم عقده، وتركه لم يتجمل به بعده.
وأما ابن هانئ محمد الأندلسي ولادة القيرواني وفادة وإفادة:
فرعدي الكلام سردي النظام متين المباني، غير مكين المعاني، يجفو بعطنها عن الأوهام؛ حتى تكون كنقطة النظام إلا أنه إذا ظهرت معانيه في جزالة مبانيه، رمى عن منجنيق يؤثر في النيق، وله غزل قفري لا عذري، لا يقنع فيه بالطيف ولا يشفع فيه بغير السيف، وقد نوه به ملك الزاب وعظم شأنه بأجزل الثواب. وكان سيف دولته في إعلاء منزلته من رجل يستعين على صلاح دنياه بفساد أخراه، لرداءة عقله ورقة دينه، وضعف يقينه. ولو عقل لم تضق عليه معاني الشعر حتى يستعين عليها بالكفر.
وأما القسطلي:
فشاعر ماهر عالم بما يقول، تشهد له العقول بأنه المؤخر بالعصر المقدم في الشعر، حاذق بوضع الكلام في مواضعه، لا سيما إذا ذكر ما أصابه في الفتنة، وشكا ما دهاه في أيام المحنة، وبالجملة فهو أشعر أهل مغربه في أبعد الزمان وأقربه.
وأما علي التونسي:
فشعره المورد العذب ولفظه اللؤلؤ الرطب، وهو بحتري الغرب يصف الحمام فيروق الأنام، ويشبب فيعشق ويحبب، ويمدح فيمنح أكثر ما يمنح.
هذا ما عندي في المتقدمين والمتأخرين، على احتقار المعاصر واستصغار المجاور؛ فحاش لله من الأوصاف بقلة الإنصاف للبعيد والقريب، والعدو والحبيب، قلت: يا أبا الريان: أكثر الله مثلك في الإخوان، ووقاك محذور الزمان ومرور الحدثان، فلقد سبكت فهما وحشيت علما.
قال محمد: قلت لأبي الريان في مجلس عقيب هذا المجلس: يا أبا الريان، لقد رأيت لك نقدا مصيبا ومرمى عجيبا، ولقد أرغب في أن أنال منه نصيبا قال: النقد هبة الموالد، وفيه زيادة طارف إلى تالد، ولقد رأيت علماء بالشعر ورواة له ليس لهم نفاذ في نقده، ولا جودة فهم في رديه وجيده، وكثير ممن لا علم له يفطن إلى غوامضه وإلى مستقيمه ومتناقضه، قلت: أنا شديد الرغبة إلى فضلك في أن تسهمني من ميزك وعقلك ما أستهدي بسراجه على مستقيم منهاجه، فأقف من سرائره على بعض ما وقفت، وأعرف من مفاخره ومعانيه جزءا مما عرفت، قال: نعم، أول ما عليه تعتمد، وإياه تعتقد، ألا تستعجل باستحسان، ولا باستقباح ولا باستبراد ولا باستملاح حتى تنعم النظر وتستخدم الفكر، واعلم أن العجلة في كل شيء موطئ زلوق، ومركب زهوق؛ فإن من الشعر ما يملأ لفظه المسامع، ويرد على السامع منه قعاقع فلا يرعك شماخة مبناه، وانظر إلى ما في سكناه من معناه فإن كان في البيت ساكن فتلك المحاسن، وإن كان خاليا فاعدده جسما باليا، وكذلك إذا سمعت ألفاظا مستعملة وكلمات مبتذلة فلا تعجل باستضعافها حتى ترى ما في أضعافها، فكم من معنى عجيب في لفظ غير غريب! والمعاني هي الأرواح والألفاظ هي الأشباح؛ فإن حسنا فذلك الحظ الممدوح، وإن قبح أحدهما فلا يكن الروح.
Unknown page