Rahman Wa Shaytan
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
Genres
والآن، فمن بين الملائكة جميعا كان المدعو لوسيفر، أي حامل الضياء، أجملهم وأروعهم خلقا، وكان من ملائكة الفلك الأول المقربين الذين يعكسون مجد الخالق وضياءه الأخاذ، وكان أفضل ما يمكن لصنعة الله البديعة أن تخلقه. فظن لإعجابه بنفسه وزهوه، أنه يستحيل على الله أن يخلق من هو أكمل منه وأعلى شأنا. منذ صحوته من العدم بهر لوسيفر بنور مجد الله فغطى وجهه بجناحيه، ثم راح مأخوذا يحدق إلى مركز النور العظيم، يسبح بحمد الله وينشد مع بقية الملائكة المقربين مجده وعظمته، وكلما حدق لوسيفر أعمق فأعمق إلى لجة الضياء ومركز الثالوث الأقدس، صار يشارك العلي رؤى المستقبل، ويتوحد بعلمه للماضي وللمستقبل، فشعر بالسعادة الغامرة والروعة البالغة لمثل هذه المشاركة، إلى أن جاء وقت عرف فيه أن الله يعد خطة لخلق جديد، ويعد فيه مكانا أعلى وأسمى من مكان الكروبيم والسيرافيم، لكائن مختلف عنهم مصنوع من مادة كثيفة لا تقارن بماهيتهم النورانية، ثم تبصر أكثر فأكثر وعرف أن الابن-الكلمة سوف يحل في جسد من طينة ذلك الكائن ويعيش بين الناس على الأرض ردحا من الزمن.
رأى لوسيفر كل ذلك بعين بصيرته، فتملكته الضغينة وملأت الأذية روحه ووجدانه، وفضل مجده الملائكي على القصد الإلهي والمشيئة العلوية، ونوى التمرد والعصيان بحرية تامة ومطلقة، رغم علمه الأكيد بما سيجره عليه عصيانه من عواقب وبما ينتظره من لعنة أبدية، ولكنه فضل السقوط واللعنة على فقدان عزته ومجده الملائكي، وإظهار الخضوع لكائن أقل منه نورانية وروحانية. أدار لوسيفر وجهه عن نور الله رافضا المشاركة في خطة الخلق المقبل ونتائجها، وفر نحو الشفق الخافت حيث الوجود يلامس العدم، وتبعه عدد كبير جدا من الملائكة الذين وقفوا في صفه وارتأوا رأيه، فقادهم بعيدا عن دائرة الرحمة حيث وضعوا أنفسهم في خدمة العدم بدلا من خدمة الوجود، وراحوا يتحفزون من أجل تخريب خطة الخلق، وإفساد الإنسان الذي كرمه الله وفضله عليهم. وهكذا تحول لوسيفر إلى إبليس، الملاك المظلم، وتحول ملائكته إلى شياطين، فنظمهم في مراتبية سفلية من تسع طبقات تناظر الطبقات التسع العلوية التي نفروا منها. لقد ظهر الشر على المستوى الروحاني، ولكنه ما زال شرا مشلولا عاجزا يتولد ويتلاشى في عالم الظلمة الخارجية، غير قادر على التحقق واقتحام عالم الأنوار، ينتظر خلق العالم المادي، وسيد ذلك العالم، لينقض عليه ويثأر منه.
والآن، فوق مياه العمر العظيم، المادة البدئية التي تنطوي على ممكنات الكون المقبل، كان العالم الروحاني يتماوج في اتساقه وكماله، حيث الثالوث المقدس في المركز وحوله تسعة أفلاك تتوضع فيها آلاف مؤلفة من الأرواح الملائكية، ثم عمد الآب إلى خلق العالم بواسطة كلمته الابن-اللوغوس. في اليوم الأول خلق النور المادي، وهو مختلف عن النور العلوي غير المخلوق، نور الثالوث ونور الملائكة، وميز الله النور عن الظلمة فدعا النور نهارا ودعا الظلمة ليلا. في اليوم الثاني خلق قبة السماء الدنيوية وبها فصل مياه الغمر بين مياه تحتية ومياه فوقية. في اليوم الثالث خلق الأرض تحت نقطة المركز من القبة السماوية، وجمع المياه التحتية إلى مكان واحد فشكلت بحار الأرض، وفي مركز الأرض صنع حفرة الجحيم التي تحيطها تسعة أودية، كما أنبت من الأرض كل عشب وبقل وشجر ذي ثمر. في اليوم الرابع خلق الشمس والقمر والنجوم ووزعها في سبعة أفلاك، ووراء الفلك السابع صنع كويكبات خط السمت أبراج القبة. وكانت الشمس وقتها في برج الحمل، في الموضع نفسه الذي ستكون فيه يوم الفصح عند خلاص العالم بدم حمل الله. في اليوم الخامس خلق طيور الجو وكائنات البحر. في اليوم السادس خلق حيوانات البر، كما خلق الإنسان آخر أعماله المبدعة. جبل الله آدم من تراب الأرض ثم نفخ فيه من روحه فصار آدم نفسا حية، وبذلك تم التجسد الأول للحق في الخلق. أما التجسد الثاني فسيكون في يسوع الذي حملت به مريم من الروح القدس، فهو آدم الثاني. نصب الله آدم سيدا على الأرض وجعله متسلطا على جميع كائناتها وسخر له زرعها ونباتها طعاما له، ثم عرض عليه حيوانات البرية كلها وطيور السماء كلها ليرى ماذا يدعوها، فدعا آدم بأسماء جميع البهائم وطيور السماء وحيوانات البرية جميعها، وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها. في اليوم السابع استراح الخالق من عمله الذي عمل جميعه.
عصيان على الأرض
كان آدم تجسيدا للكمال الإنساني الذي أراده الله، ورغم جبلته المادية فقد ولد خالدا مثل الملائكة لا يطاله الفناء، وكان مثلهم أيضا حرا مستقل الإرادة. ثم غرس الله في عدن في وسط الأرض جنة تماثل الجنة السماوية وأسكن فيها آدم، وخلق من ضلعه امرأته حواء، ثم أمرهما أن يأكلا من شجر الجنة كلها إلا شجرة معرفة الخير والشر، فعاشا في انسجام تام مع الطبيعة التي تمدهما بما يحتاجان إليه دون عمل أو عناء، إلى أن تدخل إبليس. تسلل إبليس إلى الجنة في هيئة الأفعوان والتف على جذع شجرة المعرفة، وكانت حواء قريبة من المكان فنظرت إلى الشجرة بثمارها البراقة وإلى الأفعوان يطوق جذعها فراقها المنظر ودنت، فقال لها إبليس هامسا كما تفح الأفعى: أحقا قال الله لا تأكلا من شجر الجنة كلها؟ فقالت حواء: بل نأكل من شجر الجنة كلها، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا. فقال الحنش: لن تموتا، ولكن الله عارف أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان مثله عارفين الخير والشر، فرأت حواء أن الشجرة بهجة للنظر وجيدة للأكل، فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت زوجها أيضا فأكل. عندما وصل علم معصية الإنسان إلى الخالق، نطق باللعنة الكبرى على الأفعوان إبليس، وعلى الإنسان وعلى عالم الطبيعة برمته، لأن الإنسان كان رأس هذا العالم وسيده، فأخرجه من الجنة إلى الأرض التي جبل منها ليعمل فيها ويكد ويشقى، لأنه من تراب وإلى تراب يعود ، وبسقوط الإنسان سقط معه العالم بأكمله وانفصل عن مجد الله.
1
هذه هي الخطوط العامة لما جرى في الزمن الكوزموغوني، أو المرحلة الأولى من تاريخ الكون والإنسان. فلقد خلق الله العالم كاملا ونقيا وخلق الإنسان في أحسن تكوين، ولكن الإنسان استخدم حريته في معصية خالقه مثلما فعل لوسيفر والملائكة الساقطون معه، وكما طرد إبليس وملائكته من السماء النورانية العليا، فقد طرد آدم من مثال الجنة السماوية على الأرض وخرج إلى العراء والغربة. وأكثر من ذلك فقد انتقل الوجود الأرضي بأكمله من عالم المجد إلى عالم اللعنة المقيمة، وأسلم إلى يد الشيطان في انتظار قدوم المخلص.
هذه القصة التي أوردناها أعلاه سواء بتسلسلها أم بمضامينها، لا تشكل نصا مقدسا وليست جزءا من أسفار العهد الجديد، ولكنها كما أشرت في البداية من نسج آباء الكنيسة الذين فسروا إشارات الكتاب المقدس في عهديه، وربطوها بتفاصيل من الأسفار التوراتية المنحولة. من هنا يأتي اختلاف المصادر المسيحية في بعض النقاط المفصلية من هذه القصة، وخصوصا مسألة خلق الملائكة وهل تم هذا الخلق قبل خلق العالم أم خلال مراحل الخلق الستة، ومسألة عصيان لوسيفر ودوافعه. فالقديس توما الإكويني يرى أن الملائكة قد ظهرت إلى الوجود مع العالم المادي وليس قبله، لأن وجودهم مرتبط بوجود العالم المادي، لا مستقلا ولا قائما بذاته. بينما ترجح غالبية الآراء الأخرى أسبقية خلق الملائكة على خلق العالم. وبخصوص عصيان إبليس فإن وجهة نظر بعض المفكرين المسيحيين تنسج على منوال أسفار منحولة معينة، فتقول بأن لوسيفر لم يتمرد لما رآه من مستقبل الإنسان ومكانته العالية، بل لأن غروره دفعه إلى الاعتقاد بقدرته على الارتقاء إلى مقام يعادل مقام العلي . فلقد نظر إلى ألقه الذي لا يعادله ألق آخر، ولم ينظر إلى مصدر هذا الألق ومنشئه، فقال في نفسه: أرغب في أن أكون سيدا أعلى ولا أريد أحدا فوقي. فأيده أتباعه قائلين: بلى، نرغب في رفع عرش مولانا ليبلغ عرش العلي. عند ذلك طوح به العلي خارج دائرة النور، وتبعه من والاه مديرين وجوههم عن بؤرة النور، فانطفأ بريقهم وصاروا كفحم خامد.
2
ويقدم القديس ديونيسيوس وجهة نظر حول طبيعة الملائكة جديرة بالتوقف عندها. فهو يفسر بعض فقرات العهد القديم التي يرد فيها تعبير «أبناء الله»، أو التي نفهم منها وجود آلهة أخرى حول يهوه، بأنها تشير إلى الملائكة. فالملائكة هم أبناء الله، وهم في الوقت ذاته آلهة لأنهم في حالة حب وتوحد مع خالقهم. من هذه الفقرات: «أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا» التكوين 6. «لأنه من يعادل الرب في السماء؟ من يشبه الرب بين أبناء الله؟» المزمور 89. «يا رب، إله الجنود، من مثلك رب قوي، وحقك، من حولك؟» المزمور 86. «أي إله عظيم مثل الله؟» المزمور 77. «الله قائم في مجتمع الله. في وسط الآلهة يقضي» المزمور 88. «لقد قلت إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم» المزمور 88.
Unknown page