Rahhala Muslimun Fi Cusur Wusta
الرحالة المسلمون في العصور الوسطى
Genres
ثم وصل إلى دمشق. وذكر في الكلام عليها حديثا يؤيد ما أشرنا إليه من تزوج الرحالة المسلمين في كثير من البلاد التي يمرون بها. قال: «وكانت مدة غيبي عنها عشرين سنة كاملة. وكنت تركت بها زوجة لي حاملا. وتعرفت وأنا ببلاد الهند أنها ولدت ولدا ذكرا. فبعثت حينئذ إلى جده للأم، وكان من أهل مكناسة المغرب أربعين دينارا ذهبا هنديا. فحين وصولي إلى دمشق في هذه الكرة لم يكن لي هم إلا السؤال عن ولدي. فدخلت المسجد فوقف لي نور الدين السخاوي إمام المالكية وكبيرهم فسلمت عليه فلم يعرفني، فعرفته بنفسي وسألته عن الولد فقال: مات منذ اثنتي عشرة سنة، وأخبرني أن فقيها من أهل طنجة يسكن بالمدرسة الظاهرية؛ فسرت إليه لأسأله عن والدي وأهلي، فوجدته شيخا كبيرا فسلمت عليه وانتسبت له، فأخبرني أن والدي توفي منذ خمس عشرة سنة، وأن الوالدة بقيد الحياة.»
وكان ابن بطوطة بالشام حسن انتشر الطاعون في مدنها سنة 749ه/1348م، فأشار إلى كثرة ضحاياه وواصل السفر في مصر، ووجد أن الوباء كان قد انتشر في بعض مدنها ثم خفت حدته. واتجه الرحالة إلى عيذاب حيث أبحر إلى الحجاز لتأدية الفريضة مرة أخرى. ثم قصد إلى فلسطين ومنها إلى القاهرة.
وأكبر الظن أنه لم يكن قد عقد العزم على الرجوع إلى وطنه بعد، ولكنه سمع في مصر عن عظمة السلطان أبي عنان ونجاحه في النهضة ببلاد المغرب وإحسانه على الخاص والعام، فأراد أن يقصد بابه، ويمم شطر وطنه الأول. •••
أبحر ابن بطوطة من مصر إلى تونس في صفر سنة 750/مايو سنة 1349. وسافر من تونس على سفينة مع القطلانيين مرت بجزيرة سردانية. ولم تكن رحلته إلى أرض الوطن خالية من الأخطار؛ فقد كاد أن يقع في أيدي القرصان المسيحيين، ولكنه وصل أخيرا إلى مدينة فاس ونزل في بلاط السلطان أبي عنان. ثم سافر إلى طنجة وزار قبر والدته، وعرج على مدينة سبته، فمرض بها ثلاثة أشهر. وكأنه أراد ألا يلقي عصا التسيار قبل أن يزور الدولتين الإسلاميتين اللتين لم تطأهما قدماه بعد وهما الأندلس ومملكة المسلمين في السودان الغربي.
قام ابن بطوطة إذن برحلة ثانية، زار فيها الأندلس. وأشار إلى موت الفونس الحادي عشر ملك قشتالة أثناء حصاره جبل طارق وعمله على الاستيلاء على ما بقي بأيدي المسلمين من بلاد الأندلس. وأتيح للرحالة أن يشاهد الحصون وأعمال الدفاع التي أقامها في جبل طارق السلطان أبو عنان وأبوه السلطان أبو الحسن. ثم زار مالقة وأعجب بالخزف النفيس ذي البريق المعدني، وكان يصنع بها ويصدر إلى أقاصي البلاد. ودخل بعد ذلك غرناطة وأعجب بجمال موقعها وما بها من قصور وبساتين وكروم. •••
وعاد ابن بطوطة إلى مدينة فاس عاقدا العزم على السفر في رحلة ثالثة ليزور بلاد المسلمين في السودان الغربي؛ وقيل: إن السلطان أوفده في مهمة إلى تلك البلاد. ومهما يكن من الأمر فقد استأذن في الرحيل، واتجه إلى سجلماسة وانضم فيها إلى جماعة من التجار.
2
وبدأت القافلة رحلتها عبر الصحراء الكبرى في أول سنة 753/فبراير 1352، ووصلت بعد خمسة وعشرين يوما إلى مدينة تغازي حيث يستخرج الملح. ولاحظ ابن بطوطة أن السودان يتعاملون بالملح كما يتعامل غيرهم بالذهب والفضة. ووصلت القافلة إلى (تاسرهلا)، ومنها يبعث «التكشيف» إلى مدينة إيوالاتن. وقد شرح ابن بطوطة أن التكشيف دليل من قبيلة مسوفة يكتريه أهل القافلة فيتقدم إلى إيوالاتن بكتب من المسافرين إلى أصحابهم بها؛ ليكتروا لهم الدور ويخرجوا للقائهم بالماء مسيرة أربع ليال. ومن لم يكن له صاحب في إيوالاتن كتب إلى أحد المشهورين بالفضل من تجارها، وإذا حدث أن تاه هذا الدليل أو أهلك، فلا يعلم أهل إيوالاتن بالقافلة، وربما هلك من فيها أو الكثير منهم. وذكر ابن بطوطة أن دليل قافلته كان «أعور العين الواحدة مريض الثانية»، وكان مع ذلك أعرف الناس بالطريق. وقد تحدث الرحالة عن شدة الحر في الصحراء وذكر أن القافلة كانت ترحل بعد صلاة العصر وتسير الليل كله وتقف عند الصباح.
وصلت القافلة إلى إيوالاتن بعد سفر شهرين كاملين من سجلماسة. وذكر ابن بطوطة أنها أول أقاليم مملكة السودان وأقصاها شمالا، وأن أهلها كانوا يحتقرون البيض، وأن ثيابهم كانت من المنسوجات المصرية، وأن معظمهم من قبيلة مسوفة. «وشأن هؤلاء القوم عجيب وأمرهم غريب. فأما رجالهم فلا غيرة لديهم ولا ينتسب أحدهم إلى أبيه بل ينتسب لخاله. ولا يرث الرجل إلا أبناء أخته دون بنيه. وذلك شيء ما رأيته في الدنيا إلا عند كفار بلاد المليبار من الهنود. وأما هؤلاء فهم مسلمون محفظون على الصلوات وتعلم الفقه وحفظ القرآن. وأما نساؤهم فلا يحتشمن من الرجال ولا يحتجبن مع مواظبتهن على الصلوات. ومن أراد التزوج منهم تزوج. لكنهم لا يسافرن مع الزوج. ولو أرادت إحداهن ذلك لمنعها أهلها. والنساء هنالك يكون لهن الأصدقاء والأصحاب من الرجال الأجانب وكذلك للرجال صواحب من النساء الأجنبيات، ويدخل أحدهم داره فيجد امرأته ومعها صاحبها، فلا ينكر ذلك.»
وروى ابن بطوطة قصتين في هذا الشأن. قال في الأولى: «دخلت يوما على القاضي بإيوالاتن بعد إذنه في الدخول، فوجدت عنده امرأة صغيرة السن بديعة الحسن، فلما رأيتها ارتبت وأردت الرجوع فضحكت مني ولم يدركها خجل. وقال لي القاضي: «لم ترجع؟ إنها صاحبتي.» فعجبت من شأنهما، فإنه من الفقهاء الحجاج، وأخبرت أنه استأذن من السلطان في الحج في ذلك العام مع صاحبته لا أدري أهي هذه أم لا، فلم يأذن له.»
Unknown page