فابتسم إليها ابتسامة خفيفة يعبر بها عن شكره ومودته، وغسل الطبيب الجرح وسقاه جرعة من دواء مسكن، ووضع بعض الأعشاب حول السهم، واستسلم الملك إلى يديه ولكنه كان يشعر بدنو أجله وباقتراب الساعة الفاصلة، ولم ينس في رقاده الوجه الحبيب الذي تمنى لو يودعه قبل النهاية المحتومة فلاحت في عينيه نظرات حنين، وقال بصوت خافت بغير وعي منه إلى ما حوله: رادوبيس .. رادوبيس.
وكان وجه الملكة قريبا من وجهه فسمعته، وأحست بطعنة نجلاء تخترق شغاف قلبها، فرفعت رأسها وقد أحست بدوار شديد. ولم يلق بالا إلى شعور الآخرين، فأومأ إلى طاهو، فبادر الرجل إليه. فقال له برجاء: رادوبيس.
فقال القائد: هل آتي بها يا مولاي؟
فقال بصوته الخافت: كلا .. احملني إليها، في قلبي بقية حياة أريد أن تنفد في بيجة.
ووجه طاهو نظرة إلى الملكة في ارتباك شديد، فقامت الملكة واقفة وقالت بهدوء: نفذ مشيئة مولاي.
وسمع الملك صوتها، وأدرك قولها، فقال لها: أيتها الأخت، طالما غفرت لي الذنوب، فاغفري لي هذه أيضا .. إنها رغبة ميت.
فابتسمت الملكة ابتسامة حزينة، وانحنت على جبينه ولثمته، ثم أوسعت للعبيد.
الوداع
انحدرت السفينة في هدوء متجهة صوب جزيرة بيجة، والهودج في مقصورتها بحمله الثمين، يقف الطبيب عند رأسه، وطاهو وسوفخاتب عند قدميه .. وكانت هذه أول مرة يخيم فيها الحزن على السفينة، فتحمل مولاها نائما مستسلما، يغشى وجهه ظل الموت. وكان الرجلان يلازمان الصمت وعيناهما الحزينتان لا تفارقان وجه الملك الشاحب، وكان يرفع جفنيه الثقيلتين، وينظر إليهما نظرة ذابلة، ثم يعود فيغمضهما في تراخ. ومضت السفينة تدنو من الجزيرة رويدا، رويدا، حتى رست إلى سلم حديقة القصر الذهبي.
ومال طاهو على أذن سوفخاتب، وهمس قائلا: أرى أن يسبق أحدنا الهودج حتى لا تؤخذ المرأة بغتة.
Unknown page