والتفت إلى الملكة، وقال لها: هل تغفرين إساءتي يا نيتوقريس؟
وكان التأثر قد بلغ منها مبلغا عظيما، فاغرورقت عيناها بالدموع، وقالت: لقد نسيت همومي في هذه الساعة.
فقال بانفعال شديد: طالما أسأت إليك يا نيتوقريس، لقد تطاولت على كبريائك، وظلمتك وجعلت حماقتي من سيرتك أسطورة حزينة تلقى بالإنكار والغرابة. كيف حدث هذا؟ .. وهل كنت أستطيع أن أغير المجرى الذي تنصب فيه حياتي؟ .. لقد غمرتني الحياة وتولاني جنون عجيب، ولا أستطيع حتى في هذه الساعة أن أعلن ندمي، وا أسفاه! إن العقل يستطيع أن يعرفنا بسخفنا وتفاهتنا، ولكن يبدو لي أنه لا يقدر على تلافيهما. هل رأيت أفدح من هذه المأساة التي أرادها؟ .. ومع هذا فلن يفيد الناس منها إلا بلاغة كلامية، وسيبقى الجنون ما بقيت حياة الناس. بل لو بدأت حياتي من جديد لما تجنبت الوقوع مرة أخرى، أيتها الأخت .. لقد ضاقت نفسي بكل شيء، وما من فائدة ترجى، فالخير أن أستحث النهاية.
وبدا على وجهه العزم والاستهتار، فسألته حائرة قلقة: أي نهاية يا مولاي؟
فقال بحدة: لست نذلا لئيما، وأستطيع أن أذكر واجبي من بعد طول النسيان. ما جدوى القتال؟ .. سيصرع جميع رجالي المخلصين أمام عدو لا يحصى له عدد، وسيأتي دوري حتما بعد إزهاق آلاف من الأرواح من جنودي وشعبي، ولست جبانا رعديدا يلوذ بأهداب الحياة قابضا على خيط واه من الأمل، فلأحقن الدماء وأواجه الناس بنفسي.
فارتاعت الملكة وقالت: مولاي .. أتحمل ضمير رجالك وزر التخلي عن الدفاع عنك؟ - بل لا أريد أن أضحي بهم عبثا، وسألقى عدوي وحيدا لنصفي حسابنا معا.
فأحست بامتعاض شديد، وكانت تعرف عناده، فيئست من إقناعه، وقالت بهدوء وحزم: سأكون إلى جانبك.
ولكنه هلع، وأمسك بذراعيها، وقال بتوسل: نيتوقريس، إن الشعب يريدك، وحسنا أراد؛ فأنت جديرة بحكمه فابقي له. إياك وأن تظهري إلى جانبي فيقولوا إن الملك يحتمي بزوجته أمام شعبه الغاضب. - وكيف أتخلى عنك؟ - افعلي هذا من أجلي، ولا تقدمي على عمل يفقدني شرفي إلى الأبد.
فأحست المرأة بالحيرة والارتباك والضيق الشديد، فصاحت يائسة: يا للساعة الرهيبة!
فقال الملك: هذه رغبتي نفذيها إكراما لي، لا تقاومي وحق والدينا؛ فإن كل دقيقة تمر يسقط جنود بواسل بغير ثمن. الوداع أيتها الأخت الكريمة، أنا ذاهب موقنا بأنك لن تلطخيني بالعار في ساعتي الأخيرة، إن من يتمتع بالسلطان الكامل لا يستطيع أن يقنع بالأسر في قصر، فالوداع أيتها الدنيا، الوداع أيتها اللذات والآلام .. الوداع أيها المجد الكاذب والمظاهر الجوفاء. لقد مجت نفسي كل شيء، فالوداع الوداع.
Unknown page