اكتشف الحب، أو اكتشفه الحب، أول عهده بالمرحلة الثانوية. في الخامسة عشرة كان، وفي الرابعة عشرة كانت، اتفقا على خطوبة غير رسمية يحتفظان بها سرا بينهما حتى يبلغ المرحلة الجامعية، ثم تعلن وتمضي الأمور في طريقها المعهود. وهو وسيم رشيق ذو سمرة صافية، وهي في نفس المستوى في أعين الناس، ولكن جمالها في قلبه يتلألأ بأضواء مسحورة، ومع أن الأسرتين تقيمان في عمارة واحدة بشارع مريوط بمنشية البكري، إلا أنهما لم يتعارفا قط، ولا تبادلا تحية عابرة، فاستمد معلوماته القليلة عن أسرة حبيبته «جميلة» من حديثها. عرف أن أباها يدعى «عبد الرحيم يسري»، من ذوي المعاشات، مترجم سابق بالخارجية، تركز اهتمامه أخيرا في العبادة ولعب الطاولة. أما أمها «شامة لطف الله» فهي مفتشة بالتربية والتعليم، معروفة بالحزم بقدر ما هي مغرمة بالتلفزيون. ولها أيضا إخوة ثلاثة؛ أكبرهم ضابط جيش استشهد في حرب 1948، ومهندس واقتصادي موظفان في شركتين. ولم تكن جميلة متفوقة في دراستها، ولكنه كان هو أيضا يماثلها في ذلك. وكان مغرما بكرة القدم، ويلعبها بمهارة لا بأس بها، ولا يبدي أي اهتمام بالحياة العامة، مثله في ذلك مثل أبيه وأمه، بل مثل شقيقتيه المهاجرتين مع زوجيهما بليبيا والبحرين. لم يرتفع في ذلك المسكن صوت لتأييد رأي أو معارضة رأي أو إعلان موقف ولا حتى كمتفرجين، فلا مشاركة وجدانية، وكأنما ينتمون إلى كوكب آخر. تدور الأحاديث عادة عن المدرسة، المسلسلات التلفزيونية، الكرة، الطعام، أو شركة الأجهزة المنزلية حيث يعمل الأب «إبراهيم الدارجي» مراجعا للحسابات، والأم «بيسة فضل الله» في قسم الإعلانات. رأى «عبد الفتاح» جميلة أول ما رآها في شارع مريوط الذي يعترض طرفه الشرقي الشارع العمومي المتجه إلى «مصر الجديدة»، رآها بعد ذلك في مدخل العمارة، شملهما من بادئ الأمر مناخ طيب يجود بالأنس والاستلطاف، وتبادلا الابتسام والتحية.
وأعقب ذلك اللقاء في الشارع العمومي بعيدا عن الأنظار، انفجرت في قلبه حياة جديدة بقوة ملهمة ... فاعترف، وتم الاتفاق على المستقبل القريب والبعيد، وحملها أمانة كبيرة، وهو يقول لها: لا حياة لي بدونك.
ولأول مرة يجاوز اهتماماته الصغيرة إلى حياة جديدة واعدة بثراء جديد، ويحطم حاجز الانحصار الذاتي واثبا للغير. عاش عامين سعيدا، عاش في سعادة حقيقية، ولكنها انسابت بخفة بلا تركيز أو وعي منه، فلم يعرفها - مثل كثيرين - إلا كذكرى؛ ذلك أن الحب تعرض للاغتيال ... وهو نفسه قال: «ليس لي قصة حب، ولكن قصتي تبدأ بعد وفاة الحب.» تلقى منها رسالة بيد زميلة عالمة بسرهما تنبئه فيها بأنها خطبت، وأنها عجزت عن إنقاذ حبها، وأنها حزينة أسيفة ولكن لا مناص من قطع العلاقة ... قرأ وأعاد القراءة. هل يمكن؟ بلا تمهيد؟ وهذا الأسلوب؟ قال للرسولة، وتدعى «بثينة»، أو قال على مسمع منها: أي جفاء ... إنها برقية لا رسالة!
فقالت الفتاة معتذرة عن صديقتها: عواطفها أكبر من ذلك، لكنها لا تحسن الكتابة!
وأخبرته أنها تألمت، وأنها توسلت إلى أمها أن تتركها وشأنها، أن تتركها لتنتظره، وأنها راضية بحظها، ولكنها لاقت موقفا مصمما مسلحا بالحجج الواقعية الصارمة، من تكاليف الزواج الباهظة، وأزمة المساكن، وعجز المرتبات، وأنه لا أمل لشاب في الحياة الزوجية إن لم يكن غنيا أو مهاجرا، وأن الخطيب الجديد «حامد بك مظهر» هو مناسب جدا في الظروف الراهنة ... أجل إنه في الأربعين من عمره، ولكنه خبير ذو مرتب ضخم، إلى جانب نشاط خاص يدر عليه دخلا محترما، فهو قادر وأهل للحياة الزوجية، وفي كنفه ستحظى بالحياة الكريمة والسعادة الحقيقية، لا السعادة الوهمية التي سرعان ما تتلاشى في خلاء التقشف والضنك، وحذرتها من أن تظن بها الطمع، أو تخلط بينها وبين النموذج التليفزيوني للمرأة المادية التي ترفع المادة فوق العاطفة، المسألة بكل بساطة أن الزواج ضروري لها - لجميلة - وهو غير ميسر إلا مع رجل مثل حامد مظهر، ومن حسن الحظ أنه لا تشوبه شبهة من شبهات الانفتاح، فهو قادر وشريف، فلا مفر من التسامح في عمره، وهو على أي حال لم يجاوز السن المناسبة للزواج، ومضت بثينة تقول إن جميلة لم تستطع أن تقارع الحجة بالحجة، ولعلها لم تتصور أن الأمور معقدة إلى ذلك الحد، فانطلقت تخاطب قلب أمها، وقلب أبيها أيضا، ولكن الأب قال لها: «مسايرتك تعني التضحية بك، أقسم لك بصلاتي أني صادق، ليس ما تشعرين به هو الحب، في مثل سنك لا تعرف القلوب الحب الحقيقي، ستعرفين ذلك بنفسك.» وعند ذاك قالت له بثينة: لعله مما ساعدها على الإذعان أنها ستنقطع عن الدراسة، فهو يريدها ست بيت، وأنت تعلم أنها لا تحب المدرسة!
تابعها عبد الفتاح بذهول، ثم ماج قلبه بالغضب والعذاب، وأصر على مقابلتها، فكلف بثينة بإتمام ذلك، وجاءته في أصيل اليوم التالي والخريف يقطر مناخا معتدلا ... جاءت منكسرة الطرف، تتعثر في الخجل، قابضة بأصابع متشنجة على منديلها الأبيض الصغير، حيته بغير ابتسام هامسة: إني آسفة.
حثه منظرها على التمسك بها باستماتة، غير أن نبرة صوته نمت عن الغيظ وهو يقول محتجا: تقتلينني ثم تأسفين! ماذا أصنع بأسفك؟
فقالت له بحرارة: حزني أشد مما تتصور.
فقال ساخرا: صدقت فيما يتعلق بتصوري. - لا تظلمني. - أعلني الرفض وأصري عليه.
صمتت في حيرة جلية، فطفر الغيظ إلى قسمات وجهه وتساءل: ماذا قلت؟
Unknown page