وفي أعقاب هذا أو على الأدق في أثنائه، التفت مفكرو العرب إلى المنطق على أنه مما ينظم الفكر وييسر الطرق لاستنباط الأحكام الشرعية على الوجه الصحيح، ثم اتجهوا كذلك إلى نقل قوانين البحث والمناظرة على ما تقدم به الكلام.
لم يمنع اشتغال مفكري العرب بهذا وهذا وذلك من أن يلتفتوا إلى علوم الدنيا من رياضة وهندسة وطب وفلك وغيرها، فسرعان ما جادوا وما برعوا، وسرعان ما أجلوا ووسعوا، وما ابتكروا واخترعوا ... وينسلخ من الزمن غير يسير بالإضافة إلى أعمار الأمم، حتى صارت هذه العلوم إليهم وكادت تقطع صلتها بغيرهم، فأصبحوا هم المتحدثين فيها، والمتحدثين عليها بين أمم الأرض جمعاء، وكذلك أنشئوا أجمل حضارة وأزكاها في هذا العالم!
فإذا تعاظمتك تلك النهضة في مثل ذلك الزمن، فإن مما يدفع عنك العجب أنه قد لاقت تلك الفطرة العربية دين الفطرة ... دين صاحب الهجرة.
يسر الإسلام
لقد يملك كثرة الناس العجب من تمام عظمة الإسلام في هذا الصدر اليسير من الزمن وبلوغه ما بلغ في غير عنف ولا مطاولة يكافئان هذا المجد كله ولا معظمه.
ولست الآن بصدد ترديد ما آثر التاريخ، وما دون المؤرخون في فتوح الإسلام وانتشاره السريع العجيب في قواصي الأقطار وأدانيها، وما كان لأهله في كل مكان من منعة وعزة وسلطان، فذلك شيء قد فاضت به الكتب، واحتفلت بتفصيله الأسفار الضخام، وبحسبي - فيما جردت له هذا الكلام القصير - أن ألفت القارئ إلى أن أمة بادية جاهلة صائلة يكون منها في هذا الزمن ما كان من العرب بفضل الإسلام. هذا فتح وهذه سيادة وهذا تعمير وتثمير، وهذي علوم وفنون وصناعات، وهذي حضارة لا تتعلق بأذيالها أعلى حضارات التاريخ!
لعمري ما هذا كله؟ وكيف كان؟ وكيف تأتى بهذه السرعة لدولة الإسلام؟
اللهم إن أوثق يقيني أن مرجع هذا أجمعه إلى ما في هذا الدين من يسر عظيم، الدين يسر وبفضل هذا اليسر كان من دولة الإسلام ما كان!
ستقول: إن الإسلام ما ساد إلا لأنه حق. وأقول لك: وهل ثمة أيسر من الحق أو أعسر من الباطل؟ ومتى احتاج الحق في تجليته إلى عنف أو إلى جهد؟ إن الباطل هو الذي يحتاج إلى هذا وهذا، وقل أن يثبت له معهما قرار!
وإذا قيل: إن الإسلام دين الفطرة، فمعنى هذا أنه دين اليسر؛ لأن ما جاء على حكم الفطرة لا عسر فيه ولا مشقة، أما ما جاء على جهة التكلف والتصنع فذلك الذي يقتضي كثيرا أو قليلا من الجهد والعناء.
Unknown page