وبعد، فليس من شك في أن مما يستدعي العجيب، بل مما يكاد يستهلك كل العجب؛ شأن أولئك العرب إلى آخر جاهليتهم، وما صاروا إليه بعد إسلامهم بيسير من الزمان: لقد كانوا في جملتهم قوما أميين جهالا، لم تفتتح عيونهم على علم ولم يتذوقوا فنا، اللهم إلا فن الكلام، وهو غير مغن في قيام الأمم إذا أغنى إلا قليلا.
لقد كانوا جاهلين حقا لا يرتبطهم بأي لون من ألوان الحضارة أي سبب، ولا تنفذ عقولهم إلى شيء مما وراء تلك البوادي التي يسكنون، حتى لو اضطربوا فيما يجاورهم من البلاد التي أخذت بحظ من الحضارة، بحكم التجارة ونحوها، رجعوا إلى قومهم وكأنهم لم يشهدوا شيئا غريبا من شأنه أن يلفت أنظارهم ويحرك أفكارهم، كأنما غلقت الأذهان وغلقت القلوب،
أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
1
صدق الله العظيم!
على أنهم لم يسلخوا في الإسلام إلا صدرا يسيرا من الزمن حتى حذقوا علوم من سبقوهم إلى الحضارة وفنونهم، بل سرعان ما أنشئوا هم علوما واستحدثوا فنونا أوفوا بها على حضارة الزمان!
ولا ينبغي في هذا المقام، أن يذهب عن الفكر أن ما نقل العرب من علوم غيرهم وفنونهم قد طبعوه أولا بطابع الفكر العربي، وسووه حتى مرئ في مساغ الذوق العربي أيضا، وهذا فوق ما وسعوا في آفاق هذه العلوم والفنون، واستحدثوا فيها من القضايا التي ذهبت بها إلى أبعد الغايات.
وأنت خبير بأنه إنما يبعث على العجب في أمثال هذه الغرائب، هو غفلة الذهن عن وصل الأسباب بالمسببات، ولهذا قيل: إذا عرف السبب بطل العجب ...
ففي الحق إن العربي على ما كان فيه بحكم البيئة من الجفاء والانصراف عن إرسال الفكر في شيء من دواعي الحضارة التي يشهد أو يترامى إليه أمرها ... الحق أنه - مع هذا - حديد الفطنة، سليم الطبع، مستقيم الفطرة. فلما جاءه الإسلام، وهو دين الفطرة أذكى مواهبه وحرر فكره، وأجلى ما كان يرين على قلبه، فإذا إنسان كفء أي كفء لأسمى النظر وعلاج جلي العظيمات في الحياة، وكذلك يمضي طلقا إلى ابتغاء المجد الحق من كل سبيل!
ولقد كان من المتعين على مفكري العرب وقد دخلوا في الإسلام أن يكون أبلغ سعيهم، وأول ما تنقلب فيه أذهانهم؛ هو هذا الدين طلبا لحفظ أصوله وتفصيل أحكامه، فجد منهم من جد في جمع أحاديث الرسول
Unknown page