وهؤلاء إنما يذهبون هذا المذهب ويتشددون هذا التشدد إيمانا منهم بأن اللغة من أقوى مقومات الأمة، ومن أخص مشخصاتها، فإذا هي حالت ذهبت الأمة ولم يبق لها بين سائر الأمم كيان، وإذا كانت الإفرنجية هي لغة العلوم والفنون وسائر أسباب الحضارة، ولم يبق للعربية إلا تناول التافه في الأسباب الدائرة بين الناس، فقل العفاء والسلام على لغة القرآن لغة الإسلام! وعلى الجملة فإننا لو ذهبنا مذهب أولئك المعربين لأضحت لغتنا والمالطية بمنزلة سواء والعياذ بالله!
في العلوم والفنون والمستحدثات من مختلف الأشياء ، وللنبات والأزهار مئات الآلاف من الأسماء والصيغ والمصطلحات، فإذا نحن عربنا هذا كله طغى أشد الطغيان على سائر اللغة، وأنت خبير بأن ما يدور من صيغ العربية على ألسنة نصحاء الخطباء وأقلام بلغاء الكتاب، وما يتحدث به الخاصة في مجالسهم، ويجري في مقاولاتهم ومحاوراتهم، وما تنتضح به رسائلهم، كل ذلك لا يزيد على بضعة آلاف، وكيف لهذا بأن يقوم بإزاء ذاك؟ كيف له بأن يعيش بجانبه، ويحقق ما تحقق اللغات لها من كيان؟
هذه هي المسألة كما يقول شكسبير، فليت شعري ماذا يكون المصير، فاللهم اللطف بنا فيما جرت به المقادير.
كيف كان الشباب يزوجون (1)
أسوق حديثي هذه المرة للخطبة والزواج في مصر إلى مؤخرات الجيل الماضي، ولقد أعرض عليك صورا ما برح بعضها قائما إلى الآن، وبعضها وإن اختفى فإنه ما زال متمثلا للأذهان، وذلك أنني أحب أن أعرض مجموعة كاملة واضحة من صورة الخطبة والزواج قبل أن تحول، أو تعتريها الأيام بالنصول.
وتراني في ترجمة هذا الحديث قد عبرت بصيغة البناء للمفعول، فقلت: «كيف كان الشباب يزوجون»، ولم أقل: «كيف كانوا يتزوجون»، وإنني لأقصد هذا وأعنيه؛ لأن الشباب لم يكونوا يتزوجون، وإنما كانوا يزوجون لا رأي للشاب أو للفتى في متى يتزوج ولا كيف يتزوج ولا بمن يتزوج، وإنما يزوجه أولياؤه فيتزوج «وكان الله يحب المحسنين!»
كان الزواج مرحلة من مراحل الحياة لا بد للشباب منها مهما تكن الأحوال، كان شيئا لا بد منه ولا محيص عنه، اللهم إلا لنقص داخل على الخلقة، وهذا من النادر الذي لا يجري على سياقه الحكم العام.
فإذا ترعرع الفتى وبلغ الحلم، جعل أهله يفكرون في أمر تزويجه وأكثر هؤلاء هما بذلك وحديثا فيه وتدبيرا له هو أمه، تبادي به أباه ولا تني عن مراجعته فيه، والإلحاح عليه في التعجيل به، وكلما «اعتل عليها بعلة»، أو أنهض لها في التأخير عذرا، هونت عليه الصعب ويسرت له العسير، فإذا كان العذر في قلة المال، وكان هذا هو أبلغ الأعذار وأشيعها، عرضت بيع أعلاقها وحليها، فإذا لم يكن فيها غناء ففي بيع «حصة» من البيت، أو في الاقتراض غناء!
تريد الأم أن «تفرح» بولدها وتزوجه من أي سبيل، وهنا ينبغي أن تعلم على جهة اليقين أن تعلم الولد أو انقطاعه عن الدرس، أو نجاحه في أي ميدان من ميادين الحياة أو فشله، أو اشتغاله بأي عمل من الأعمال، أو تفرغه أو تبطله؛ اعلم أن شيئا من هذا لا يدخل، ولا يجوز أن يدخل في حساب تزويجه، أو يقام له أي وزن في هذا الباب، ذلك بأن تزويج الشاب أو الفتى - كما أسلفت عليك - مرحلة لا بد منها في اجتياز مراحل الحياة!
ولعل أهم ما كان يسهل أمر زواجه على والديه أن الزوجة لا تكاد تجشم أولياءه شيئا من النفقة، فهي تسكن في دارهم وتأكل مما يأكلون منه وتشرب مما يشربون، فإذا كانت مطالع الأعياد جيئت بكسوة لا تعيي على رب الدار في كثير ولا في قليل!
Unknown page