على أن مما يفجع حقا أن كثرة من هؤلاء الذين ينالون مجدا ويولون سلطانا، سواء أكان أقام من ثم لهم هذا في جماعة أم في شعب أم في شعوب، سرعان ما ينسون كل شيء؛ لأن الأثرة قد ملكت من نفوسهم كل شيء فنفوسهم هي المبدأ، ونفوسهم هي الغاية حتى إذا أجالوا الفكر في منافع الجماعات، فلا لأنهم يؤثرون لهذه الجمات نفعا أو يبتغون لها خيرا؛ بل لأنهم إنما يطلبون من هذا السعي مراما لأنفسهم لا لشيء آخر، وقد يكون هذا المرام في أعف الصور هو إحراز المجد، أما ما يقع من خير المجموع أو ما يحتمل أن يقع، فليس أكثر من طريق!
وكيفما كان الأمر، فإنه ما يكاد أحد هؤلاء يحس مجده ويستشعر سلطانه، حتى يورم أنفه، ويتداخله من الصلف المخيلة ما يملأ اعتقادا بأن الرأي في الأمر ليس إلا ما يرى هو، وأن ما سواه لا صلاح له ولا خير فيه، بل لقد يكون كله شرا وفسادا.
ولقد يشتد طغيان هذه الخلة على المرء، فيرى أن الناس لا ينبغي أن ينظروا إلا بعينيه، ولا يسمعوا إلا بأذنه بل إنه ليرى أن من العبث الضار أن يجري فكرهم بغير ما يجري به فكره، وأن تنتهي آراؤهم على غير ما ينتهي إليه رأيه فإذا خالفه امرؤ إلى غير هذا كان بين اثنين: إما ملتاث ممخرق وإما معاند مكابر يجب أن يعجل له سوء العذاب!
وفي الحق أن أكثر من يغمرهم هذا الطغيان، إنما يرون ما يرون ويفعلون ما يفعلون عن ثبات إيمان ورسوخ اعتقاد!
وما ظنك بمن تطبعهم شدة الأثرة على الإيمان بأنهم مبعوثون من لدن رب السموات لإصلاح ما فسد في رقعة من الأرض أو في رقاع الأرض جميعا؟ فإليهم وحدهم عهد الله بالاضطلاع بهذا المهم، وعليهم وحدهم تقع تبعة التقصير في علاجه، والراضي في إمضائه وإكمامه!
وهؤلاء لا يطلبون الأعوان والأنصار ليعاونوهم بصادق الرأي وصالح المشورة، ولكن ليعاونوهم بقوة المظهر وإمضاء ما قضى به الوحي الذي لا يخطئ أبدا!
فإذا تعاظمك ما يختلف على هذا الرأي من عصور العتو والطغيان تخرب العامر، وتدمر القائم وتقفر الآهل، وتراق فيها الدماء بغير حساب، وتزهق النفوس لغير سبب من الأسباب؛ إذا تعاظمك هذا في عصور الدهر المتتابعة، فاعلم أن علته تلك الخلة الفاجرة في الإنسان!
وأمسى، لقد أتمت دورة الشمس حولا سلكته في عقد التاريخ أيضا، وآذنت العالم بفجر حول جديد.
وإن ذاك العام المدبر وهذا العام المقبل، لهما - كما تعلم - من أعوام الهجرة، هجرة محمد
صلى الله عليه وسلم
Unknown page