فولج زنجي ووقف مترددا يجيل نظره في أكناف الغرفة، كأنه يخشى رقيبا، ثم همس إلي قائلا: كلمة يا سيدي؛ لأن الوقت ضاق بي، ولكن كلمة تتعلق عليها ثروتك وحياتي، إنني أحد الفعلة المشتغلين في المنجم الخامس، كنت عائدا من شغلي فعثرت في طريقي بقطعة من الألماس لا نظير لها عند الملوك، وجدتها بين أنقاض منجم مهجور، فهي ملكي ولي حق التصرف بها، ولكن لا سبيل لي إلى أن أبيعها في هذه البلاد؛ لأن الزنوج الفعلة يتهمونني بأنني سرقتها، وكذلك يتعذر علي أن أفر هاربا؛ إذ لا مال عندي، وأبواب النجاة مغلقة دوني، فيشق علي أن تبقى قطعة الألماس عندي من غير جدوى، وقد فضلت أن أبيعها وأنتفع بثمنها، ولما كنت أسمع أنك كريم النفس رءوف بالزنوج لا تسيء معاملتهم، حملني الأمل أن أوافيك وأعرض عليك تلك القطعة الفاخرة، فتحصل بها على الغنى ولست أسألك لقاءها إلا ليرة إسترلينية.
فما سمعت كلامه إلا اعتراني الذهول وبقيت جامدا كالصنم، أما الزنجي فأخذ يقلب بين يديه قطعة الألماس بحجم الجوزة الصغيرة وهي صافية الماء، خالصة على زعمه ليس فيها حبة رمل.
ثم قال: وحقك يا سيدي لقد وقع تحت يدي أكثر من ألف قطعة كبيرة ولكني لم أجد في عمري أصفى منها، فبمثلها تزدان تيجان الملوك، أنت يا سيدي من البيض وليس من يتهمك بالسرقة، فإن جدت علي بالنزر اليسير فزت بالمال الكثير حلالا.
15
فأغراني أمل الربح وأعطيت الزنجي كل ما كان علي من الدراهم وأخذت منه الحجر الكريم ، وفي الغد سرت في رفقة قاصدين مدينة الرأس ودليلنا رجل من الزنوج.
وفي ثاني الأيام خرج علينا جماعة من الزولوس، فصاح الدليل: لا سبيل للمقاومة يا سيدي، فإن عفا عنا الأعداء وقنعوا بالمال غنيمة نسلمهم كل ما معنا، فإن ذلك لزهيد.
فصحت: كيف زهيد؟ لا لست أسلم، وفي الحال أطلقت عليهم المسدس فجرحت منهم واحدا، وانقض علينا الباقون كالكواسر فقتلوا الدليل وكل رفقائي وقدر الله أن بقيت حيا ولكن مثخنا بالجراح، فأخذ زعيم الزولوس سلاحي واقتسم رجاله ثيابي وأمتعتي ومالي، وقد نزعت امرأة منهم قطعة الألماس وعلقتها بعنق ولدها ظنا منها أنها حرز حريز.
وما مضى علي في الأسر أيام حتى شفيت من جراحي وعادت إلي القوى والنشاط، وقد اختبرت بنفسي حينئذ أن الصنيع لا يضيع، فإنه كان بين الزولوس رجل قد اشتغل من ذي قبل مع فعلة المناجم عندنا، وكنت أحسنت الصنيع إليه مرارا، فهو الذي توسل إلى زعيم القوم ليعفو عن حياتي وهو أيضا ألح إليه بعد شفائي أن يطلق سراحي ويرد علي ثيابي وبعض مالي.
فطلبت أيضا قطعة الألماس ولكن المرأة أبت أن تردها علي؛ اعتقادا منها أنها تميمة تدفع عن ولدها كل أذى، فأخفيت ما بي وأظهرت الجلد، ولما جن الليل خلوت بالولد فسددت فاه ونزعت الجوهرة منه وفررت هاربا على جناح الريح.
وما زلت أصل السير بالسرى وعوامل الخوف تتنازعني وأنا أبتعد عن الطرق المطروقة، ولا أجسر على المعاطاة مع الناس؛ مخافة أن تسلب مني الجوهرة الثمينة التي كانت في جيبي ويدي عليها دائما لا تتخلى عنها، وقد وصلت بعون الله إلى مدينة الرأس بعد معاناة المشاق والمخاوف، وأول ما باشرته أني بعثت برسالة برقية إلى جبل لبنان بواسطة صديق لنا في بيروت وفحوى الرسالة: «ابشري يا أنيسة فإني عائد إليك بالأموال الطائلة.»
Unknown page