لكن الشيخ يندفع بكل قوته (من كان يصدق أن الشيخ سيد يملك كل هذا الجبروت)، ناسيا هيبة المكان متجاهلا البنادق المشرعة في أيدي العساكر، والنجوم اللامعة في ستراتهم، والشوارب المبرومة في وجوههم، لا بل يبلغ به العناد أن يهبط فجأة - كما ينزلق المولود من يد القابلة - على مكتب حضرة المأمور، ويزداد به العناد حتى يخبط بكل قوته على المكتب (من ناحية الرأس كما يروي الشهود الأقدمون) خبطتين أو ثلاث خبطات قوية، صارمة.
لا بد أن الضابط هب مذعورا، طارت روحه من جسمه، أو وقف قلبه في صدره لحظة قبل أن يتسمر بالحائط ويبلع ريقه، ويرفع يده المرتعشة وأصبعه بالشهادة، ويصيح بصوت كأنه صوت ميت: أمرك يا سيدنا الشيخ، أمرك يا سيدنا الشيخ!
ثم يهتف بالأهالي: نفذوا طلباته يا جدعان، كل طلباتك يا شيخ سيد، وابنوا له المقام ابنوا له المقام، المقام، المقام!
ويظهر أن حضرة المأمور ظل يكرر هذه الكلمة حتى نبهه الشاويش النوبتجي والعساكر الذين بدءوا يفيقون من الذهول إلى أن النعش قد خرج من زمان، والجنازة انفضت والناس راحت لحالها ، بل ربما ظلوا لأيام وشهور عديدة يؤكدون له أن الشيخ قد خرج مسرورا من عنده، راضيا عنه وعن عياله، داعيا له وللحكومة بالستر والنصر على الكفار، ومن يدري؟ فلعلهم ظلوا يكررون له ذلك حتى في تلك الأيام الطويلة، التي دأب فيها على الإشراف بنفسه على بناء المقام، تحت شجرة الجميز العجوز، أمام الجسر المتآكل الذي ما يزال يئن أنين المحتضر تحت كل قدم تعبره، بل يؤكدون له كما سمعت من بعض العجائز الذين يذكرون هذه الحادثة حتى الآن، أن الأهالي لا ينظرون إليه ولا إلى مبنى النقطة نظرة سخرية ولا شماتة، بل لعلهم قد نسوا هذه الحكاية كلها تمام النسيان.
بابا وماما
تروح الأيام وتأتي الأيام وزينب تعمل في بيت الحاج محمود، من ثلاث سنين، عندما جاءت بها أمها من العزبة، كانت كالبلبلة الصغيرة لولا أنها كانت تنط وتجري، وتعرف الكلام أيضا، لقالوا إنها لم تفطم بعد، كتلة من اللحم، في خرق مهملة، تحتاج لمن يرضعها ويطعمها ويسقيها، ومن عنده طول البال؟ قالت الحاجة بسيمة - التي زارت سيدنا النبي ووضعت يدها على شباكه - بعد أن خرجت من الصلاة: باسم الله ما شاء الله، يا شيخة البنت صغيرة.
قالت أمها بعد أن لطعت يد الحاجة: خادمتك يا ست الحاجة.
قالت الحاجة وهي تلمس رأس البنت وتكاد تقبلها لولا رائحة التراب والعفونة التي تطلع منها: والنبي إنها محتاجة لمن يخدمها.
تقول أمها: ما هي بنتك وخادمتك يا حاجة، تتربى في عزكم أنت وسيدي الحاج، ربنا يخليكم لنا، بطن وانزاحت عنا يا حاجة، والنبي ما هي راجعة ولا آخذها من عندكم إلا وهي عروسة، والحاجة تضرب كفا بكف وتضحك: اللهم صل عليك يا نبي، طيب يا ستي، رزقنا ورزقها على الله، روحي أنت بالسلامة. وتروح أمها، بعد أن تتغذى وتأخذ ما فيه القسمة وترفع كفيها بالدعاء أن يعمر الله البيت، ويطيل في عمر الحاج ولا يحرمها منه أبدا. •••
تروح الأيام وتأتي الأيام وتأخذ زينب على البيت وأهله، سميرة بنت الحاجة، التي تكبرها بعام واحد، تصبح صاحبتها الروح بالروح، إن لعبت أمام البيت لعبت معها، وإن ذهبت للسوق رجلها على رجلها، وإن جلست تقرأ الحواديت وتجمع وتطرح في البيض والملاليم جلست بوزها في بوزها، وسميرة تموت فيها ولا تتصور الحياة بدونها، صحيح أنها تنام على السرير وزينب على الأرض، ربما أيضا من غير غطاء، وصحيح أنها تأكل مع أمها وأبيها على السفرة، بينما زينب تلتقط لقمة من هنا ولقمة من هناك، ويا ما باتت من غير عشاء لأنهم نسوها أو لأن النوم كبس عليها، لكن ماذا يهم كل هذا؟ ماذا يهم أن تمشي حافية طول النهار، أن تدوخ كالنحلة بين المطبخ والسفرة وعشة الفراخ على السطوح ودكان البقال والجزار في السوق، ما دامت تستطيع في النهاية أن تلعب مع سميرة، أن تسمع ما حدث للخروف المسكين مع الذئب الطماع، وتطمئن على أن الشاطر حسن قد تزوج ست الحسن والجمال، والعصفور ضحك على دقن الثعلب المكار؟ •••
Unknown page