وما قلناه عن الفرد الواحد، نقول مثله عن شعب بأسره، فهو لن يكون «شعبا» بالمعنى الصحيح، إلا إذا «توحدت» أوجه النشاط في حياة أفراده، بحيث يصبح في مستطاعنا أن نحدد لذلك الشعب خصائصه التي تميزه عن سائر الشعوب؛ أي أن الشعب - على كثرة أفراده - يصبح وكأنه فرد واحد كبير، يطوي تحت أجنحته ملايين أبنائه في اتساق متناغم. والذي يجعل مثل هذه الوحدانية في الشعب كله ممكنا، هو أن يكون له هدف واحد، مقرر ومعترف به ومقبول من أبناء الشعب قبولا راضيا، وهنا أيضا - كما هي الحال في الفرد الواحد - يكسب الشعب الموحد أمرين في آن واحد: فهو أولا يعرف ماذا يختار بين البدائل الكثيرة التي عادة ما تطرح نفسها أمامه، وثانيا تصبح له شخصية فريدة، تميزه، وتجعل له هوية محددة المعالم، يعتز بها ويعمل على صونها.
وما قلناه عن الفرد الواحد، ثم عن الشعب الواحد، نقوله عن القومية العربية، ثم عن الوحدة الإسلامية، بل عن الوحدة الإنسانية كلها إذا شئنا وشاءت؛ ففي جميع هذه الحالات، لا سبيل إلى تحقيق ما نريد في هذا السبيل، إلا أن تنشأ لما نريد أن نوحده، «ذات» ولا تتوافر لنا هذه «الذات» المنشودة، إلا أن يكون هناك «هدف» مشترك، واضح المعالم، مقبول من أفراد الجماعة التي تريد أن يكون لها وحدة تضمها في كيان، وإقامة الهدف هي نفسها التي تقيم بدورها موازين الاختيار بين الرغبات المتعارضة إذا ما عرضت لها في الطريق.
وفي هذا السياق، لا بد لنا من لفت الأنظار إلى حقيقة جوهرية، وهي أنه لا سبيل إلى وحدانية الذات - في الفرد، أو في الشعب، أو في الوحدة القومية أو الدينية - إلا إذا استعنا بالذاكرة (ويقابل الذاكرة في الفرد الواحد، التاريخ في حياة الجماعات) لكي نجمع الماضي مع الحاضر في لحظة توحدهما؛ إذ لولا الذاكرة في استعادتها للماضي كلما استدعت المناسبة الراهنة شيئا منه، ولولا التاريخ في حياة الشعوب والجماعات، لما بقي للكائن - فردا أو جماعة - إلا اللحظة الحاضرة وحدها. وفي حدود هذه اللحظة الواحدة، لا مجال للحديث عن «ذات» ووحدانيتها، فالذات هو الفرد، وفي الشعب، وفي أية جماعة موحدة، هي امتداد على الزمن، تتعاقب فيه لحظات، والمطلوب هو أن نجد الرباط الذي يوحد تلك اللحظات الكثيرة المتتابعة، في تيار موحد، هو الذي يجعل الفرد فردا معينا، والشعب شعبا معلوم الهوية متميز الشخصية عما عداه.
أما بعد - هكذا وجهت الحديث إلى صحبتي حول المائدة - فإنني أتوكل على الله وأستعين به، وأستغفره إذا أخطأت، وأقول : إن وحدانية الذات في الأمة الإسلامية، هي ما أقيمت الكعبة المشرفة لتؤديه، ومن أجل هذا ترتد هذه الأمة بأصولها إلى إبراهيم الخليل عليه السلام، فالتقاء خطوط النظر من الأمة الإسلامية جميعا في مشارق الأرض ومغاربها، عند الكعبة لا بد من تأويله ليكون التقاء في هدف واحد - من حيث هي أمة واحدة - لأن في داخل تلك الأمة الواحدة شعوبا، قد يكون لكل شعب منها أهدافه الخاصة، التي يضيفها إلى هدفه من حيث هو شعب مسلم. وعلى هذا الضوء نفهم ما أنبأنا به صاحبنا في أول حديثنا، من أن صلاة الفرض لا تجوز داخل الكعبة؛ لأن الأهمية كامنة في التقاء الجماعة على هدف، وماذا يكون هدف المسلمين الواحد، الذي يحقق لهم ذاتا إسلامية موحدة، إلا أن يحيوا على إسلام أراده الله وفصله في كتابه. ولما كانت رسالة الإسلام الأولى هي «التوحيد» - توحيد الذات الإلهية - تبع ذلك بالضرورة وجوب أن يكون التوحيد هو هدفنا في كل ذات تعنينا: ذات الفرد ونحن نتولى تربيته، وذات الشعب ونحن نرسم سياسته، وذات العروبة ونحن نعمل على تدعيم أركانها، وذات الأمة الإسلامية في المجال الذي يقتضي أن يكون المسلمون فيه فكرا واحدا وسلوكا واحدا. والرمز المشير إلى هذا كله، هو الكعبة التي نتجه إليها في الصلاة.
قال أحد الحاضرين: أخشى أن يفهموا وحدانية الأفراد والشعوب على أنها صب لهؤلاء جميعا في قوالب متشابهة كما تصب الحجارة.
قلت: إنهم يخطئون لو فعلوا؛ فواضح أن المقصود هو أن تظل لكل فرد شخصيته الفريدة غير المتكررة في سواه، ثم تتلاقى تلك المتباينات جميعا في وحدة متسقة، كما تتلاقى مجموعة الألفاظ المختلفة في قصيدة الشاعر.
تربية الضمير الديني
قل هو الله أحد
أحدية الذات الإلهية هي من رسالة الإسلام في صميم الصميم، وإن الإنسان المسلم ليبلغ من إسلامه بمقدار ما تمثل وحدانية الله إيمانا، وفكرا وشعورا، فأولى الدرجات أن يردد لفظها بلسانه وشفتيه، ويتلو ذلك صعدا أن يغوص بفكره في معناها، وإلى هنا يظل في مرحلة التعلم، فالمعلم يلقنه: قل هو الله أحد، فيرددها المتعلم مرة أو مرتين أو ألف مرة، ثم يشرح له المعلم معناها، فيعي المتعلم ما شرح المعلم، فهذا المتعلم - إلى هنا - قد حفظ، ووعى معنى ما قد حفظ، لكنه لا يدري ماذا «يصنع» بما قد حفظ ووعى، وعندئذ تأتي الخطوة التربوية على أيدي والديه ومعلميه أو عن طريق تأمله هو في ذاته إذا أراد الله له خيرا وهدى، وذلك بأن يتحول المعنى المحفوظ والمعلوم إلى «ضمير»، فكيف يكون ذلك؟
ما نطلق عليه اسم «الضمير»، هو ما استخلصناه لأنفسنا مما وعيناه وعشناه. ولقد استخلصناه إما من خبراتنا نحن المباشرة أو مما علمنا إياه آباؤنا ومعلمونا «فأضمرناه» في نفوسنا لنحمله معنا أينما توجهنا، فنكون بمثابة من حمل معه دليلا هاديا يرشده إلى سواء السبيل إذا ما أشكل عليه الأمر في موقف من مواقف حياته. وإذا قلنا عن أحد إنه بلا ضمير، فإنما نعني أنه لا يملك في حافظته ما يبين له حدود الصواب والخطأ، فقد يصيب وهو لا يدري أنه الصواب وقد يخطئ وهو لا يدري أنه الخطأ.
Unknown page