فالعقل - هو الآخر - أداة في طبيعة الإنسان يحفظ بها بقاءه، وهو لا يبدأ نشاطه في هذا السبيل إلا إذا شط الغرور بصاحبه وشطح، وأوشك أن يودي بصاحبه إلى مواضع الدمار. وتفصيل ذلك أن الإنسان - متروكا على فطرة الغابة - يأخذ في التصرف على أساس أنه سيد مسيطر، ويطالب غيره بالإذعان والخضوع، حتى إذا ما خرج هذا الواهم من كهفه إلى حيث الناس، وجد أحد أمرين: فإما أن يأخذه هؤلاء الناس مأخذ الجد فيما زعم، فتثور في أنفسهم هم الآخرين فطرة السيادة، ويكون بينهم وبينه قتال يظهر الأقوى، حقا وفعلا، لا خيالا ووهما، وإما أن يأخذه الناس في زعمه مأخذ المزاح فيهملونه، وعندئذ يثور غروره، فيقاتلهم، حتى يتبين هنا أيضا، من هو الأقوى حقا وفعلا، لا خيالا ووهما، ففي كلتا الحالتين يقع قتال ليبلو الناس بعضهم بعضا أيهم أقوى وأحق بالسيادة على الآخرين. •••
فماذا يكون موضع المغلوب في هذا القتال؟ موقفه هو الشعور بالدافعين معا: فالغرور لا يزال يملي عليه استئناف القتال حين يسترد ما كان توهمه لنفسه من سيادة، لكن العقل الذي هو أيضا جزء من فطرته، يجد من ذلك الغرور الشاطح، ولا بد للهازم والمهزوم معا في نهاية المطاف أن يتهادنوا لتصبح الحياة المنتجة لكليهما في حدود المستطاع.
وفي ضوء هذا التحليل المستفيض نقول: إن في حياتنا من أصحاب النفخة الكذابة كثيرين، والنفخة الكذابة هي الغرور الواهم الذي لم يجد من سلطان العقل ما يعيده ويرده إلى صواب، فلا يبقى أمامنا إلا أن تنشط حركة النقد البصير الواعي، الذي هو بمثابة العقل الرادع، لينكشف للناس أيهم إذا ازدهى بنفسه فعن امتلاء، ومن حقه أن يزهى وأن نزهى به، وأيهم إذا ازدهي بنفسه فعن خواء، وبذلك يكون مغرورا يستحق الردع، حتى لا ننخدع فنسلم له زمامنا وهو به غير جدير.
قالت الشمس للسحب
لمنزلي شرفة طويلة عريضة فسيحة، مطلة على النيل العظيم الهادئ الوقور. ومنذ تضاءلت قدرتي على الخروج لأسعى مع الناس في الشوارع والميادين، ومع تلك القدرة المتضائلة قلت رغبتي في مغادرة داري، حتى وإن أسعفتني قواي، أقول إني منذ ذلك الحين، جعلت شرفة داري ممشاي، أظل أطويها جيئة وذهوبا، من طرفها الأدنى إلى طرفها الأقصى، ممسكا لهذا البندول البشري عدد الوحدات التي يتردد بها بين الطرفين. وكنت قبل ذلك قد ضبطت الحساب، وعرفت على وجه الدقة كم وحدة من تلك الحركة البندولية تستغرقها الساعة بدقائقها الستين، وهي الفترة التي أقضيها في رياضة المشي داخل القفص.
وليس لتلك الساعة الرياضية وقت معلوم، فقد أبكر بها مع مطلع النهار، وقد تضطرني ظروفي أن أرجئها إلى الضحى. واستطعت صباح اليوم أن أجعلها بعد شروق الشمس بقليل، وكانت السحب تملأ جو السماء، مع رذاذ خفيف - بل أخف من الخفيف - أحسست برودة قطراته على وجهي، لم تكن السحب من الكثافة بحيث تحجب الشمس الطالعة حجبا كاملا، فقد كان في وسع العين أن ترى وراء السحب بؤرة أشد ضوءا مما جاورها، فتعلم أنها الشمس من فوق السحاب، تدل الشاخص ببصره على وجودها، وإن لم تستطع بعد أن تهتك براقع السحب التي حجبت وجهها. وتخيلت كأن الشمس تخاطب السحب الحاجبة، تخاطبها وهي هادئة واثقة بقوتها، قائلة لها بأن انقشاعها أمر محتوم، فلم تعرف الدنيا منذ الأزل، ولن تعرف إلى الأبد، شعاعا كتمت أنفاسه ظلمات، فشعاع الضوء مصيره إلى ظهور، مهما طال احتباسه وراء الحجب.
كنت ما أزال في شرفتي، أمشي بين طرفيها، وأحرص على عد الوحدات، ومع هذا فلم أملك زمام خواطري، التي تدفقت تيارا متلاحقا، وكأنها ترج رأسي رجا لتخرج ما تختاره من كوامن الماضي - بعيدة وقريبة - فما وقعت تلك الخواطر بين كوامن الماضي إلا على بقع سوداء، تشبه قطع السحاب الأدكن في محاولاتها أن تطمس ينبوع الضياء، لكنني كنت - والحمد لله - كلما قذفت خواطري المنسابة في وجهي بواحدة من تلك القذائف السود، أشرت لنفسي - بإصبعي - إلى الشمس المحتجبة وراء السحب، قائلا لها: إن النصر محتوم آخر الأمر لأشعة النور.
لقد أحاطت بي في فترات متقطعة من حياتي، جماعات من صغار النفوس، لهم أجسام الرجال، ولكن أحلامهم وأفكارهم كأحلام العصافير وأفكارها. وإنه لمن أصعب الصعاب أن يتم تفاهم بين راشد وأرعن؛ لأن لكل منهما ميزانه، فربما وجدت فكرة معينة قد رجحت بها الكفة في ميزان الراشد، فإذا وضعتها هي نفسها في ميزان الأرعن خف مثقالها، والأرعن معذور؛ لأن تلك هي طبيعته وموازينها. وشيء شبيه بهذا، ما يحدث بين الآباء وصغار أطفالهم، حين يتوقع الآباء من الأطفال الصغار أن يتصرفوا تصرف الرجال، مع أنهم أطفال صغار.
كنت منذ أمد بعيد، قد وقعت على كتاب إنجليزي يضم مجموعة مختارة من قصص الأطفال، والذي استوقف نظري منه، هو أن الذي كتب عنه التعليق، رجل كان يومئذ مديرا لبنك إنجلترا، فعجبت أن تكون لرجل كهذا، ملئت أيامه بأرقام المال وأحداث الحياة الاقتصادية، علاقة بأدب الأطفال. وقرأت ما كتبه، فوجدته قطعة رائعة بارعة في نفاذ البصيرة، وما أزال أذكر منها تلك المقارنة الجميلة التي أخذ الكاتب يصف بها الفجوة الواسعة بين رؤية الآباء والأمهات لصغارهم، ورؤية الصغار لآبائهم وأمهاتهم ، فبينما الأولون لا تنقطع لهم دهشة من الصغار، كيف يتركون غرف الدار على نظافتها وحسن ترتيبها، ويتسللون خفية إلى الخارج يلطخون ثيابهم بالطين؟ لكن الصغار من ناحيتهم لهم دهشتهم كذلك التي لا تنقطع، من هؤلاء الآباء والأمهات، كيف يرضون لأنفسهم حياة حبيسة بين الجدران، جالسين في ركود على مقاعدهم، بينما في وسعهم أن يتسلقوا الأشجار ليجلسوا على فروعها العليا، تهتز بهم كأنها الأراجيح. نعم، إنه لا سبيل إلى تبادل التقدير بين طرفين، في أحدهما رجاحة الراشدين، وفي الآخر خفة الأطفال.
وصادفني من أمثال هؤلاء الصغار كثيرون، كانت لهم براءة الأطفال حينا، ولكنهم مزجوا صغار عقولهم ونفوسهم بسموم الخبث أحيانا، فكأنما نحن مسلطون بعض على بعض، فإذا كان لأحدنا أنف أفطس، كره أن يرى من يجاوره ذا أنف أشم، حدثني كاتب كنت أعرف له قيمته ومكانته، قال إنه لبث فترة يرسل مقالاته إلى الصحيفة التي كانت تنشر له، فلاحظ أن مقالته - خلال تلك الفترة - تحاط برسوم كاريكاتورية وإعلانات، وأن أعمدتها لا تتصل متراصة متماسكة ليتمكن القارئ من متابعتها، بل كانت تلك الأعمدة تتقطع، ليقع جزء منها في الشمال الشرقي للصحيفة، وجزء آخر في جنوبها الغربي، وجزء ثالث معزول في صفحة أخرى، فظن صديقي الكاتب الذي روى لي الرواية، أن الأمر مصادفة اقتضتها ضرورة الظروف الطارئة، لكن المصادفة أخذت تتكرر أسبوعا بعد أسبوع، حتى لم تعد فيها طبيعة المصادفات، وأراد أن يكشف السر، فأبى عليه حياؤه أن يفعل، حتى أراد الله للسر أن ينكشف من تلقاء نفسه، إذ سعى إليه النبأ وهو في داره، أن مسئولا كبيرا في الصحيفة قد أصدر أوامره بأن تهال أكوام التراب على مقالات صاحبي، تخلصا منها؛ لأنها لا هي تعجبه فيحتفل بها، ولا هو من الجرأة بحيث يعلن رفضها. ولما كنت أعرف لصاحبي الكاتب قيمته ومكانته، سألته: بماذا يعلل ذلك الموقف؟ فضحك وقال: سأترك لك أن تعلله كيف تشاء.
Unknown page