وما كدت أنتهي من تلاوة هذا الكتاب حتى أدركت أن صراعا شديدا يجري بين نفسيتين؛ الواحدة تنظر إلى مثال أعلى تريد تحقيقه، والأخرى تنظر إلى المادة، ولا تهمها مطالب النفس، وقد استوقف نظري في هذا الكتاب عبارتان، أولاهما قول المرسل: «تلك القضية التي طال أمرها وتشعبت حتى لم يعد يحسن السكوت عنها.» ففي هذه العبارة خشونة هي أقرب شيء إلى الوقاحة، ناهيك باستعمال لفظة: «قضية» استعمالا قزت منه نفسي، وأحسست أن الرجل يتكلم كلام من يريد القيام بمساومة تجارية مادية، أما العبارة الثانية فهي قوله: «ودمتم»!
أثار في هذا الكتاب عاصفة شديدة من الغضب، وأخذت الخواطر تتوالى على مخيلتي، فأعدت الكتابين إلى سليم، ونهضت من مجلسي، وشرعت أتمشى في الغرفة، وأخاطب صديقي، فقلت له: «إني أفهم الكتاب الأول تمام الفهم، فإن عبارته المقتضبة تدلني على أن صاحبته كتبته في ساعة انفعال شديد، أما الكتاب الثاني ففيه ما ليس يشهد لصاحبه بصفاء السريرة، وأعترف أني لا أفهم السبب الذي حمله على تسمية الأمر «قضية»، وقوله «حتى لم يعد يحسن السكوت عنها» يدل على وقاحة وخروج عن التفويض الذي يزعمه، لا أدري كيف أعلله؟»
فتبسم سليم ببرودة وقال: «أما أنا فلست أرى فيه شذوذا عظيما عن القاعدة المتبعة في هذا المحيط وهذا الزمان، أفلم تختبر كيف أن الناس هنا لا يتركون كبيرة ولا صغيرة مما لا يعنيهم إلا وتدخلوا فيها، فهم إذا اجتمعوا بأحد الناس لم يكفهم أن يتعرفوا إلى شخصيته، بل اندفعوا يبحثون عن جميع شئونه العامة والخاصة، وهم لا يتوانون حتى يقفوا على كيفية معيشته بجميع دقائقها؛ كساعات أكله وشربه، ونومه واستيقاظه، ومقدار أرباحه وخسائره، وكل ما له علاقة بحياته الخاصة، ولست أدري كيف اكتسب قومنا هذه الصفة اليهودية الذميمة، التي تجعل حياتهم منحطة انحطاطا كبيرا، يذهب باحترام النفس وسائر المزايا الشريفة التابعة له.» - «وماذا أجبت السيد ج.؟» - «لم أجبه بشيء، فغد الجمعة، وقد عزمت على الذهاب إليه غدا في الموعد المضروب.» - «أعزمت حقيقة أن تذهب إليه؟» - «عزمت، ولكن ليس من أجلي أنا نفسي.» ونظر إلي طويلا ثم تابع: «ولا أرى مانعا من ذهابك معي إذا أحببت.»
فأطرقت هنيهة ثم قلت: «قد قبلت اقتراحك.»
فمد يده إلي وقال: «إذن سأكون بانتظارك.»
فصافحته بحرارة، ووعدته بالمجيء، ثم ودعته وانطلقت وكلي أفكار وهواجس؛ لأني أشفقت عليه من مقابلة الغد التي تطيرت منها.
في اليوم التالي كنت عند سليم الساعة السابعة والنصف تماما، وفي الساعة الثامنة تماما نزلنا من العجلة أمام منزل السيد ج. في شارع م. ... فاستقبلنا الرجل في الباب، وأدخلنا مسكنه الذي كان بسيطا جدا، وقادنا إلى غرفة داخلية كانت امرأته جالسة فيها، فقدمني سليم إلى السيد ج. وامرأته وجلسنا، وزاد سليم على تعريفه إياي قوله: «إن السيد أ. صديقي الحميم وموضع سري.» فكأنه أراد بذلك أن يطمئن صاحب الدعوة وامرأته، فلا يمتنعا عن التحدث في الغرض من الاجتماع.
فلما استقر بنا المقام أخذنا في حديث عام في بعض الشئون السياسية والاجتماعية، وظهر أثناء الحديث أن السيد ج. يتسرع في الفهم وفي الجزم بالأمور التي يتسع فيها مجال الدرس والاستقصاء، ولا بأس بأن أصفه وصفا موجزا؛ فهو ليس من ذوي القامات الطويلة، ولكنه يعلو عن متوسطيها قليلا، أسمر البشرة، مستطيل الوجه، أنفه دقيق، متقلص الجانبين قليلا، تعلوه نظارتان مشدودتان عليه ورأسه كبير، ولكنه أكثر بروزا في القحف منه في الجبهة، وعلماء الحيوان يستدلون ببروز القحف على قوة المراكز الغريزية الحيوانية، فهو على عكس بروز الجبهة وسعتها الدالين على قوة مراكز الذكاء والفهم، أما علماء التشريح فيضربون صفحا عن كبر الرأس وشكله، ويؤكدون أن دليل مقدار الذكاء والفهم والقوى المدركة يجب أن يكون في تعاريج الدماغ وتلافيفه، ولكن لما كان الوصول إلى معرفة مبلغ تعاريج الدماغ أمرا شاقا؛ لأنه يقتضي عملية جراحية خطرة، وجب علينا أن نكتفي بالبراهين التي يقدمها لنا علماء الحيوان والإنسان في حكمنا على الأشخاص الذين نتعرف إليهم، وليس في نظر السيد ج. استقرار وإمعان يستدل منهما على تعمق ونضج، ولا يوجد في وجهه تجعدات تنم عن اختبارات شاقة في الحياة وهموم تابعة لها، أما زوجه فكانت أقصر منه قليلا مخروطة الوجه دقيقة الشبح، بسيطة الهندام، وليس في مظهرها شيء غير عادي، والاثنان يتكلمان بلهجة الخبير المحنك.
وتطرقنا في الحديث إلى ذكر بعض شئوننا القومية، فاندفع السيد ج. في الكلام على «السوريين»! هذه الكلمة: «السوريون» كم نلوكها وكم نمضغها في كل مجتمع وكل حديث؟! آه، كم نحن مغرمون بالكلام على قوميتنا السورية، فكل واحد منا يتكلم عن السوريين يصير فيلسوفا، وكل واحد منا يحاول أن يرقى إلى الفلسفة بنقد السوريين وإظهار مواطن ضعفهم، وقليلون هم الذين يعرفون قيمة الرصانة في هذا الموضوع، وأقل منهم الذين يدركون أن تحسين حياتهم وتقويم أخلاقهم أفضل كثيرا وأعظم نتيجة من الإكثار من نقد المجموع والإنحاء عليه باللائمة! ولعل القارئ تعب من كثرة ما سمع من الكلام في هذا الموضوع الدائم في حياته اليومية، ولكن لما كنت أريد أن أكون أمينا في روايتي لم أر بدا من تسجيل ما فاه به السيد ج. بهذا الصدد قال: «السوريون فاسدون؛ فهم لا يقدمون على أمر إلا ظهر فيه فسادهم وعجزهم.» ووضع لفافة التبغ في فيه، وبعد أن دخن حاجته تابع: «الدليل على فساد حياة السوريين أنهم خالون من الفنون الجميلة، ولا يعرفون قيمة المبادئ، ولولا ذلك لما كانوا قصروا عن بلوغ المراتب التي بلغتها الأمم الأخرى، لقد قلت هذا الكلام في مواقف متعددة، وجميع الذين سمعوني، كانوا يقولون: إن الحق معي.» وعاد إلى تدخين لفافته وهو يبتسم ابتسام المسرور من نفسه لوقوعه على اكتشاف خطير، وبريق عينيه يدل على ارتياحه الشديد إلى ما يقول.
قلت: «لا أعتقد أن شعبنا عند ما تذكرون من الفساد، أجل، يوجد فينا عيوب تهذيبية كثيرة، ولكن نهضة إصلاحية مخلصة تكفل إزالتها.»
Unknown page