ولست أجد من ضرورة تقضي علي بأن أظهر كيف أن عقلا أو إرادة تكون علة للعالم، كما أني لست أعلم كيف أن دقيقة من المادة تجذب أخرى في حين أنها تدفعها. ومع ذلك فإني مقسور على الاعتقاد بسببية الجذب والدفع، كما أنه ليس في مستطاعي أن أعرف كيف يتحد العقل مع مادة المخ ومع نشاط دقائقه وحركتها. وليس لذلك من علاقة لاتصال العلة بمعلولها أو السبب بالمسبب بالمعنى العلمي؛ لأن ذلك يتطلب الموازنة بين الاصطلاحين، ولا يمكن أن نضع موازنة بين ذلك الشيء الغامض المبهم الذي نسميه العقل، وبين القوة ومادة المخ مثلا.
ويكفي لدي أنني يجب أن أعتقد بحقيقة العلاقة الكائنة بينهما، فلست أعرف مثلا كيف أن إرادتي تكون سببا دافعا لي على إحداث حركاتي البدنية. ولكن يكفي عندي أن أعتقد في حقيقة أن إرادتي تدفعني على القيام بحركاتي الجسمانية، وعلى هذا السنن وعلى هذه القاعدة ذاتها: يكفي عندي أن ألزم بالاعتقاد بوجود خالق، من غير أن أجد نفسي مضطرا لأن أظهر كيف أنه السبب في وجود الأشياء، وكيف أنه علتها.
وفضلا عن كل هذا فإن الكون المادي؛ إذ يقتصر وجوده لدينا على تكوين عقولنا، فليس من الضروري أن أجعل المادة موضع اهتمامي في بحثي وراء الحقيقة، بل أوجه كل همي نحو ذلك الشيء الذي لا يكون للمادة عندي من وجود إلا به؛ أي العقل.
على هذا نجد أن الاعتقاد بوجود الله أو خالق أو مصدر للأشياء أو علة لها أو ما شئت فقل، فرض ضروري يقوم على حاجات العقل ومقتضياته. وعلى هذا الفرض الضروري قس كل بقية الفروض التي لا يمكن للعقل أن يحتفظ بألفته من غير أن يسلم بها، ولا يمكن للعلم أن ينفيها، ولو عجز عن إثبات وجودها بأساليبه الموضوعة. (10) ما بعد الفرض الضروري فرض إمكاني
عرفنا الفرض الإمكاني بأنه الفرض الذي يستوي فيه حدا الوجود والعدم، أو الذي يحتمل أن يكون له حقيقة موجودة، كما يحتمل أن لا يكون له أية حقيقة في الخارج. وذكرنا أن معنى هذا أن العقل إذا سلم بالفرض الإمكاني أم لم يسلم، فإنه يظل محتفظا بألفته كاملة، في حين أن العلم يرفض التسليم بالفروض الإمكانية رفضا باتا صريحا، ما لم تثبت صحتها ثبوتا قاطعا بالأساليب العلمية المعروفة. وعلى مقتضى التحديد والشرح الذي حددنا به الفرض الضروري يمكن أن نتخذ هذا التحديد قياسا، نقيس عليه في التفريق بين الفرض الضروري والفرض الإمكاني.
إذا استطعنا أن نعي هذه المبادئ فلا جرم أننا نستطيع أن نحدد المعقولات تحديدا يجعلها أكثر خضوعا لأحكام العقل وكفاياته، وخرجنا من ظلمات الجدل إلى وضح الطريق العقلي الصرف، نمتع بثمراته ونتخذه قاعدة نبني عليها صرح العلم ونشيد من فوقه بناء الفلسفة والآداب.
وبعد: فهذا تصدير رأينا من الضروري أن يستوعبه كل قارئ قبل أن يمضي في قراءة هذا الكتاب.
قصة الطوفان وتطورها
يعتقد كل الذين درسوا العبرانيات القديمة، وكل من أكب على تحليل سفر التكوين - وهو السفر الأول من توراة موسى
1 - أن القصص التي يتضمنها إنما ترجع في أصلها إلى أسطورتين قديمتين، تخالطتا وتمازجتا مع الزمان وعلى توالي العصور، فتكون منها سفر التكوين الموسوي، الذي يظهر لنا كيف خلق العالم، وكيف خلق آدم، ثم كيف طرد، ثم تكاثر نسله، ثم أغرقه الطوفان في زمان نوح، ثم تكاثر ثانية من بعد ذلك.
Unknown page