فقالت المياسة: ابن أخيك المقداد بن الأسود الكندي، وهو الفارس المذكور والبطل المشهور، قال: فلما سمع أبوها كلامها أزبد وأرعد وقال: ويلك كفي عن هذا الكلام ولا تطمعي فيه أبدا، فكيف وقد خطبوك السادات من العرب والملوك من ذوي الرتب وما رغبت في أحد منهم، فكيف ترغبين في هذا اليتيم وهو ضعيف قومك وفقير عشيرتك؟ فقالت: يا أبتاه، أنا ما أرغب بالمال الجزيل المدخول، بل بالنسب المشكور والبطل المذكور والفارس المشهور، فلا خير بالمال بلا شجاعة وإنه أمير كريم قد رأيت الشجاعة لائحة بين عينيه، وإن هذا الفارس شغفني حبه وطلب قلبي قربه، وإن لم تزوجني به طوعا وإلا تزوجت به كرها، وتركت بيدي في يده، وسنخرج نقطع الطريق، وتخفيف السبيل على الشارد والوارد.
فعند ذلك قام من عندها وقد صعب عليه كلامها، فقال لها: يا مياسة، تريدين تركبين العار. ثم إنه خرج من عندها وأتى إلى سادات قريش واعتذر منهم ورجعوا خائبين، وأقبل جابر إلى قومه وعشيرته وبني عمه، وقال لهم بما سمع من كلام المياسة فقال له بنو عمه: اعلم أن المقداد لم يكن في العرب مثله؛ لا أفرس منه ولا أشجع ولا أكرم منه، وكان كثير المال حسن الحال، وإنما جارت عليه نوائب الزمان وأطوار الحدثان، فتضعضع حاله وقل ماله وإنما هو فارس شديد، فإن كان فقيرا فإن نعمتك تستر فقره وتجبر كسره، وحق اللات والعزى لقد فرحنا بذلك؛ حيث لا يملكها غريب فتضحى بين العرب وحيدا ...
وكيف ظهر لنا هذا الشجاع المناع والبطل الرواع وشاع ذكره عند كل القبائل والعربان، فأرسل إليه وزوجه ابنتك حيث طلبت قربه، واسمح له بالمهر، ولا تطلب منه ما لا يقدر عليه فتظلمه، منك وإليك، وحقه واجب عليك. فعند ذلك استدعى جابر ولده طارقا وقال له: يا ولدي، امض إلى منزل المقداد وادعه.
فعند ذلك مضى طارق في طلب المقداد، وكان عند جابر رجل من بني عمه من محاضر السوء (ولعن الله كل محضر سوء) فقال: يا جابر، أتريد فقد المقداد وبعده عن المياسة؟ فقال: نعم وحق اللات والعزى، لقد نبهتني إلى شيء كنت غافلا، وما يكون بعد؟ فقال: ثقل عليه الشرط والمهر، واشرط عليه شرطا فيمضي في طلبه. فقال: جزيت خيرا هذا هو الرأي، والمقداد لم يعلم بذلك، وأما طارق ولد جابر فإنه وصل إلى المقداد وقد نزع لأمة حربه لأمه ولبس جبة من الصوف. قال: فسلم المقداد على الغلام، فرد عليه السلام، فقال له طارق: أيها السيد، إن أبي يقرئك السلام ويخصك بالتحية والإكرام ويدعوك إلى حضرته. فقال المقداد: وما يريد مني وإني أريد أن أعدل إلى إبلي وقد سرحت وما وراءها أحد وقد هجر النهار؟ فقال الغلام: أجب والدي وانظر ما يريد منك وارجع إلى إبلك فلعله يكون خيرا. فقال له المقداد: سمعا وطاعة وحبا وكرامة. وسار ولم يتغير ودخل على جابر بن الضحاك وعنده سادات الحي جلوس، فسلم على القوم سلاما لطيفا، فردوا عليه السلام ونهضوا له.
فقال المقداد: أيها السيد الكريم والبطل العظيم والفارس الجسيم، لخير دعوتني إليه أم لشر وقعتني عليه؟ فقال جابر: لخير دعوتك يا مقداد، فما تقول في المياسة؟ قال: ما أقول فيها وهي ابنة عمي داخلة معي في الحسب والنسب، عاقلة أدنية ذات حياء وعفة، طوبى لمن كانت له أهلا وكان لها بعلا. فقال جابر: ما تقول في مهرها؟ فقال المقداد: منك الشرط ومني الرضا وفوق الرضاء بالوفاء والتمام. فقال وكان خال المقداد طراد بن عياد الكندي حاضرا في المجلس فقال: ويلك يا مقداد أنت مجنون؟ فالتفت المقداد إلى خاله وقال: كأنك خائف على مالك، وحق اللات والعزى لا أقرب شيئا منك، وإني كفؤ كريم وفي بكل ما يشترط علي جابر، أركب جوادي وألبس لأمة حربي، وأطلب أبوي وأجدادي وأرضي جابرا فوق الرضا، أكيد الأعداء وأفرح الأصدقاء.
ثم التفت المقداد إلى جابر وقال: اطلب ما شئت؟ فقال: يا مقداد أريد منك مهر ابنتي أربعمائة ناقة حمر الوبر سود الحدق لم يحمل عليها شيء، وأربعمائة رأس خيل مجللة بجلاب إبريسيم وسرجها وركابها من ذهب، ومائة جارية ومائة عبد، ومائة أوقية من المسك وخمسين أوقية من الكافور، ومائة رطل من العمود القماري، ومائة ثوب من الديباج وعليه قمطر مملوءة من ثياب مصر وعمل الشام، وألف أوقية من الذهب الأحمر، وألف أوقية من الفضة البيضاء، وثمانية فوق معلمات وثمانمائة أوقية من البنان الرومي؛ وبعد ذلك أريد منك جهازها مثل بنات العرب، وإذا أحضرت جميع ما طلبته منك تعمل وليمة عظيمة وتدعو لها أهل الحي جميعهم وتكسي صبيانهم، فهل لك طاقة فيما ذكرته لك؟
فقال المقداد: إني وفي ملي. فنهض خال المقداد طراد وقال له: ويلك يا ابن أختي أنت مجنون! أو معك ذخائر ادخرتها من غير علمنا؟ وحق اللات والعزى والهبل الكبير الأعلى إن هذا المهر لم يقدر عليه كسرى وقيصر، فمن أين المال كله؟ فقال: يا خال، وحق ما تحلف به العربان إني وفي. فقال: يا جابر، بئس ما صنعت مع ابن أختي، فلقد ضيعت على ابن أخيك، وأبعدته من بين يديك، وإنك أسأت بذلك. فقال المقداد: يا جابر، اعقد النكاح، وكان زواجهم في ذلك الزمن نزع الخاتم من يد العم ويعطيه إلى الصهر، فعند ذلك نزع خاتمه ودفعه إلى المقداد وقال له: تشوف الخير يا مقداد. ثم إن المقداد أخذ العهود والمواثيق من جابر وجعل المدة ثلاثة أشهر، وقال: إن أتيت في هذه المدة والمال معك فالمياسة لك، وإلا فلمن أردنا زوجناها. فعند ذلك وصى المقداد بذلك وافترقوا على هذا الكلام. وأما ما كان من جابر فإنه قام من وقته وساعته وأفرد إلى المياسة ثلاثة بيوت، فجعل للخدم بيتا وللدايات بيتا. ثم إن المقداد نهض من وقته وساعته وأتى إلى منزله ولبس لأمة حربه وتقلد سيفه واعتقل رمحه وركب جواده وودع أمه وسار إلى بيت المياسة، وكان في بيتها من يحفظها من المقداد، فلما نظر المقداد إلى البيوت وبيت عمه تذكر ما يصيبه من الفراق فبكى بكاء شديدا وأنشأ يقول:
ثلاثة أعود؛ وعود من القنا
وعود من الطرف، وعود من الإبل
ثلاثة أبيات؛ وبيت أحبتي
Unknown page