رجل كريم المحتد طيب المنبت، يمتاز بذكاء خارق، عاش في طرف قصي من أطراف العالم الإسلامي هو أفغانستان وقت أن كان يتنازعها نفوذ الإنجليز والروس، وقضى حياته مرتحلا، فزار الهند وبلاد العرب وإيران ومصر، وفي كل بلد إسلامي نزل به كان يرى أهله أذلة، وكان يرى الأوروبيين هم الأعلون سلطانا ونفوذا، فحز في نفسه ما رأى، وهاله ما شاهد، فنادى بفكرة الجامعة الإسلامية، وكان سلاحه الأكبر لتحقيق هذا الهدف إيجاد نظام حكم دستوري؛ لأنه بعد تجارب متكررة يئس من حكام هذا الشرق الإسلامي ومن احتمال أن يعاونوا على إقالة العالم الإسلامي من عثرته، بل لقد آمن أن هؤلاء الحكام بنزعاتهم الاستبدادية القوية عامل آخر من عوامل التأخر، فهم والنفوذ الأوروبي آفتان يجب القضاء عليهما معا للنهضة بالعالم الإسلامي، والسبيل إلى ذلك وحدة إسلامية ونظام برلماني دستوري.
وكان أنبغ تلاميذ الأفغاني هو الشيخ محمد عبده المصري، أخذ عنه مبادئه، وشاركه منفاه، وعاونه في إصدار مجلة العروة الوثقى ، ثم كان قطبا من أقطاب الثورة العرابية عند مولدها، ثم كانت له جهود مشكورة في إصلاح الأزهر.
هذا سبب عام أثر في مصر كما أثر في غيرها من أجزاء العالم الإسلامي، ومهد لظهور الثورة العرابية كما مهد لظهور ثورات أخرى في أجزاء أخرى من العالم الإسلامي.
يضاف إلى هذا عوامل أو أسباب أخرى خاصة بمصر، لعل أبرزها انتشار روح التذمر نتيجة لازدياد نفوذ الأجانب ماليا وسياسيا، وإنشاء صندوق الدين، وتخصيص الجزء الأكبر من موارد البلاد لصالح الدائنين، واستعلاء الأجانب، واعتمادهم على الامتيازات الأجنبية والقضاء المختلط لعرقلة كل إصلاح قضائي أو مالي أو إداري داخل البلاد.
وصاحب هذا كله ظهور وعي قومي جديد نتيجة لانتشار التعليم النسبي وازدياد عدد المتعلمين، وتقدم الصحافة، والتجارب البرلمانية الأولى التي أتاحت للمصريين فرصة مناقشة أحوالهم في أواخر عصر إسماعيل، ولم يعمل الساسة والحكام من جانبهم على تغذية هذا الوعي القائم الوليد وتنميته، بل على العكس عملوا علي كبته ومحاربته، فتوفيق كما أشرنا ديكتاتوري النزعة، وكبير نظاره رياض على شاكلته يعمل على تقييد حرية الفكر ويضطهد كل مناوئ لسياسته.
وأخيرا أتت القشة التي تقصم ظهر البعير - كما يقول المثل - وظهر الخلل في الجيش، وذلك حين اضطربت الأحوال المالية في أواخر عهد إسماعيل، فأهمل الجيش كما أهمل غيره من مرافق البلاد، وعجزت الحكومة عن دفع مرتبات الجند والضباط، فانتشرت روح التذمر في صفوفهم، وفقدوا ثقتهم بالحكومة، وضاعت هيبة الحكام عندهم، وتطورت الأمور من سيئ إلى أسوأ حين استبد الضباط الأتراك بالأمور وعملوا على اضطهاد الضباط المصريين وإبعادهم عن الوظائف الكبرى في الجيش.
عند ذلك اشتد ضغط البخار إلى درجة أن الإناء لم يعد يحتمله إلا أن يجد منفذا ومتنفسا في أحد جوانبه، وكان المنفذ والمتنفس في ركن الجيش، وعند ذلك ولدت الحركة العرابية لتبدو في ظاهرها وأول أمرها أنها حركة جانبية مقصورة على الجيش وحده.
ولم تكن مطالب عرابي عسيرة التحقيق، أو أعجوبة من الأعاجيب، ولكنها كانت مطالب شرعية، يهدف بها إلى تحقيق أماني الشعب، فكان يطلب زيادة عدد الجيش، وإتاحة الترقية للضباط المصريين كما تتاح للجراكسة والأتراك، وإعادة الدستور، ولكن توفيقا كان استبدادي النزعة، وكانت تسنده دول أوروبا بقناصلها المقيمين في مصر، لا يريدون لهذا الشعب تقدما أو رقيا، بل يريدون إضعافه ليضربوا ضربتهم المبتغاة من زمن طويل، وتحرج الموقف بين زعيم الشعب وبين الخديو، وكانت مقابلة عابدين، التي قال فيها توفيق قالته الأثيمة: أنا خديو البلد وأعمل زي ما أنا عايز.
ولكن البطل عرابي رد عليه رده الوطني المشهور: نحن لسنا عبيدا ولن نورث بعد اليوم.
ولعبت إنجلترا لعبتها الماكرة واصطنعت حادثة المالطي مع المكاري في الإسكندرية؛ لتثبت أن الحكومة عاجزة عن حفظ الأمن، وعن حماية أرواح الأجانب المقيمين في مصر، ولتمهد بذلك السبيل لضرب الإسكندرية، وتحقيق حلمها القديم باحتلال أرض الكنانة، وقد نجحت فعلا أساليب إنجلترا الماكرة، وبدأ أسطولها يضرب حصون الإسكندرية في صباح ذلك اليوم الكريه، يوم 11 يوليو سنة 1882، وتطورت الحوادث في سرعة عجيبة، وانتهى الأمر باحتلال إنجلترا لمصر، فكيف بدأ ضرب الإسكندرية؟ وكيف تم الاحتلال؟ ثم كيف ظل شعب مصر يقاوم هذا الاحتلال أربعة وسبعين عاما لم يهدأ خلالها لحظة واحدة، ولم ين عن النضال في سبيل استعادة حريته، إلى أن نجح أخيرا في تحقيق هذه الأمنية الحبيبة؟
Unknown page