كلا! إن رجال حكومتنا لم يكن يهمهم إيقاف الأمة على مشروع أو إقناعها برأي أو فكرة ولكن الذي كان يهمهم أن يكسبوا من مجلس الشورى كل مشروع يريدونه بأية طريق.
إذا كانت أمتنا ليست كأمة الإنجليز، فإن من وزرائنا من تعلموا مع وزراء الإنجليز في مدرسة واحدة، فهل من رأيهم أيضا أن «الشرق شرق والغرب غرب»؟ أم هم في القربى من الأمة لوزراء الإنجليز - زملائهم في المدنية الحديثة - مقلدون؟ (4) إلى المدينة المنورة
في سنة 1911 وقبيل الحرب التركية الإيطالية بليبيا سافرت مع أبي إلى المدينة المنورة، وإن أنس لا أنس وقفتي في مكتبي لوداع ولدي؛ إذ وقف كلاهما على كرسي ليستطيع عناقي من غير كلفة على هواه، ولئن أنكر على الرجل أن يصف المشاهد التافهة العادية التي تقع لجميع الناس، فإني من الذين يعطون المقام الأول لمشاعر الحنان بين الآباء والأبناء، وآلام الفراق والشوق إلى التلاقي وحب الأوطان، والميل إلى مسامرة الأشباه ومودة الأقرباء والأصدقاء، ورحمة الفقراء، ومواساة الضعفاء، ومداراة السفهاء، واحترام الكبراء، تعجبني روايات هذه المشاعر، ولا أجد حقا للذين يحتقرونها بجانب مشاعر البسالة ووصف آثار القدرة والشجاعة، ومآزق الخوف والفزع والصفات الاستثنائية التي لا تتفق إلا لعدد محدود جدا من بني آدم لا يخطئهم العد، وإن الناس لمعذورون في الولع بقصص مشاعر البسالة؛ لأنها غير عادية، وقليل أن يجد المرء في العادة لذة، ولكن تلك المشاعر العامية المتواضعة لا ذنب لها إلا أنها عادية، وإن كانت في الحقيقة هي المؤلفة لحياتنا اليومية، وهي التي بها، ولها نحيا ونحب الحياة.
فما أنس وقفة وداع ابني؛ إذ ينظر أكبرهما إلي بملء عينيه مفتوحتين جامدتين، يسألني كم يوما أغيب في هذه السياحة؟ فأجبته: ثلاثين. فإذا أنا بابنتي الصغرى وهي لا تجهل عد الأيام تجول في عينيها قطرات الدمع، فقلت: لا؛ بل شهرا واحدا. ولولا أني كنت عزمت نهائيا على السفر وارتبطت به لأرجأته إلى أن يعتاد ولداي على خبره فيخف عليهما أمره؛ لأنه كان فجائيا لا يعلمانه إلا يوم سفري، تركتهما ولا شغل لي في الساعات التالية إلا تدبر هذا الشعور واستقصاء أصله في نفس الحي، ومقدار فائدة الطبيعة من إيجاده في قلوبنا الضعيفة.
جعلت أتساءل: كيف يغفل والد عن ولده المحبوب بهذا المقدار، فيتركه في معترك الحياة البشرية أعزل لا سلاح له من العلم والتربية؟ عجبت لرجل يحب ولده حبا جما، فيجعل حبه وقفا على ما يضره دون ما ينفعه، يأمره بالكذب لتحصيل خير مزعوم أو دفع شر موهوم، والكذب مهلكة، يطبعه على الملق والرياء والنفاق، وكلها مهالك، يضرب له بفعله شر الأمثال من الاستهانة بالكرامة وحب البقاء إلى حد الجبن، والتبرم بالعهود إلى حد اللؤم، فأخلق بهذا الحب الأبوي أن يسمى «الكره الأبوي»!
أبناؤنا أجزاؤنا وصنع أيدينا، هم بررة إذا أردنا، وهم على ما عودناهم، والمرء أسير عاداته، إنهم إن قست قلوبهم، وفسدت طباعهم، وكسدت عقولهم؛ فالمسئولية في ذلك على ما أورثناهم إياه من دمائهم وأمزجتهم، وما دعوناهم إياه بعد ذلك من انتهاك حرمات الفضيلة، وما قصرنا عنه من تصحيح عقولهم بتعليم العلم، وإذا نحن تدبرنا وتحرينا الأصلح لمستقبلهم، فربيناهم على الفضيلة، وصححنا بالعلم أحكامهم على الأشياء، وهذبنا أذواقهم ، وقوينا في نفوسهم ملكة الأخذ عن الغير وملكة الفهم وملكة الإنتاج، أخرجناهم إلى الحياة العملية مسلحين يغلبون ولا يغلبون.
ما أنس لا أنس تلك الوقفة وذكراها يثيرها في نفسي نداء الصغار «يا بابا» و«يا أبي» و«يا أباه» تبعا للهجات البلاد، فأشعر بفيض من الحنان لا يدع لغيره من المشاعر محلا من قلبي إلى أن أرجع النظر في هذه الحقيقة المعنوية الحسية معا، فلا أفهم معنى ولا أرى وجها لأولئك الذين يدعون الله لأنفسهم أو عليها بالعقم أو بقلة الولد؛ لأنهم يخافون الإملاق، وما يتمنونه أقبح من الإملاق، وما ضر أحدهم أن يبقى فقيرا بماله غنيا بولده، فيا طالما كان الولد قرة العين ومدفع الفقر ومناط الراحة والهناء، أوليس من الحمق أن يخشى الفقير كثرة الولد ليخسر زينة الحياة الدنيا بطرفيها: المال والبنين؟! ذلك هو الخسران المبين.
من هؤلاء أيضا المتفلسفة المتطيرون الذين يأخذون على ظاهره قول ملك المفكرين أبي العلاء المعري، يجأرون بالشكوى من سوء العيش، يغلون في تقدير متاعب الزواج، ويجبنون على احتمال العناية بالأولاد، ويفضلون الرهبنة والعقم، لا خوفا من الفقر، ولا فرارا من الذل، بل حرصا على راحتهم وإرضاء لأنانيتهم، يأخذون من الوجود ولا يعطون، يستدينون ولا يؤدون، كأني بأولئك لا يرون الولد إلا ثمرة لذة طائفة، ولا يشعرون بمكانة الأبوة وطهارتها ولذتها التي لا تعدلها لذة عند الذين أوتوا قلوبا تعرف أن تحب، وصدورا رحبة تسع اللذائذ والآلام على السواء، ونفوسا كبيرة تستحي أن تكون مدينة للوجود لا دائنة، مستهلكة غير منتجة، أولئك هم الآباء الأكفاء لشرف الأبوة، وأولئك هم أسعد الإنسانية الأكرمون.
في مقام الرسول
صلى الله عليه وسلم
Unknown page