الفصل السابع
أربعة رجال عرفتهم
حسن عاصم باشا
قبل أن تجمعني الصداقة بالمرحوم حسن عاصم باشا، جمعني العمل معه في النيابة العمومية، وكان وقتئذ «أفوكاتو» عموميا، عرفته رئيسا، وعرفته صديقا، ثم عرفته مستشارا، ثم سر تشريفاتي لسمو الخديو عباس حلمي الثاني، ثم رئيسا للديوان الخديوي، فما وجدت رجلا أظهر ثباتا على المبادئ، وأقوى تمسكا بنهج الاستقامة من هذا الرجل، فمن عرفه عرف خلقا صريحا لا يتلون، وسيرا قويما لا يعوج، ومبادئ راسخة لا تتغير، حتى لقد كان يرميه بعضهم بالتطرف، وشدة التمسك بالحق، ويعدون ذلك عليه جفاء في الأخلاق، وما به جفاء، ولكن الطاعة للمبدأ كالطاعة لقائد الجيش في ميدان القتال.
كان عاصم باشا رجلا أسمر اللون، قصير القامة، جذاب الطلعة، مقتصدا في حركاته عند الحديث، جهوري الصوت يميل في لبسه دائما إلى السواد على طراز واحد، وقورا في ملبسه، وقورا في مجلسه، لا يخرج إلا نادرا، قليل الضحك كثير التبسم، ويمتاز عن كثير من أمثاله بأنه لا يغلو في إرضاء الناس بالقول، ولا يعد بعمل ما لا يريد.
وقد اشتغل رئيسا لنيابة الإسكندرية، ثم لنيابة طنطا، ثم مفتشا في لجنة المراقبة، ثم عين أفوكاتو عموميا، وبقي منتدبا في لجنة المراقبة فلما طلب إليه مظلوم باشا ناظر الحقانية وقتئذ والسير سكوت مستشارها، أن يباشر عمله الجديد رفض الاشتغال بوظيفة الأفوكاتو متى كانت خلوا من العمل الجدي؛ لأن مسيو لوجريل لم يكن يريد مشاركة غيره في العمل، فوعده الناظر والمستشار أن سيكون له عمل معين، وأنه لن يبقى إلا بضعة أشهر، ثم يعين نائبا عموميا بدل المسيو جريل.
ولكن الحال قد تبدل، واتهم عاصم بأنه معاد للإنجليز، فأمر اللورد كرومر المستشار السير سكوت بفصله من وظيفة الأفوكاتو العمومي، وكان سكوت من العدالة في الأخلاق بحيث يعز عليه تنفيذ هذا الأمر في حق رجل، عرف هو والناس أجمعون مكانه من الفضل والعمل، وموضعه من أصالة الرأي والاستقامة، فكان المستشار في مركز حرج بين تنفيذ أمر المعتمد البريطاني ومعاملة عاصم بما يقتضيه العقل وتوجيه المصحلة من أن يرقيه، كما وعده، لا أن يفصله من غير ذنب، فبقي الأمر بين البقاء والإقصاء، كل هذا وعاصم يعمل بغيرته المعروفة وجده الزائد من غير أن يهتم بفصله أو ترقيته.
ومما يدل على ما كان له من علو في النفس، وقوة في الخلق أنه في هذه الفترة بين الفصل وعدمه وضع مشروعا يقضي بنقل نحو خمسة وثلاثين كاتبا باليومية في محكمة الاستئناف التي غصت بالكتبة إلى المحاكم الابتدائية التي كانت في أشد الحاجة إلى الموظفين، فدخل عليه باشكاتب المحكمة بخطاب نقل هذا الجم الغفير، وقال له: «ما لك ولهذا العمل؟ والأمر بفصلك تحت الختم.» فأجاب: إني لا أشتغل إلا للأمة، وما دمت في وظيفتي ولم يصدر أمر فصلي، فلا مندوحة عن القيام بواجباتي.
بقي أمر الفصل تحت التقديم إلى مجلس النظار حتى وجدت وظيفة مستشار من الدرجة الثانية في محكمة الاستئناف فعين فيها، ولم يلبث فيها طويلا، ثم عين سر تشريفاتي لسمو الخديو، فوضع للتشريفات نظاما وقواعد، ثم رقي إلى وظيفة رئيس الديوان الخديوي، وما لبث أن تغيرت ثقة سموه فيه من غير ذنب أتاه إلا حب محافظته على مبادئه وإخلاص النصح لسموه، فقوبل على ذلك بالإبعاد والإحالة إلى المعاش، ثم تفرغ لأعمال الجمعية الخيرية الإسلامية التي له من الفضل في إيجادها وبقائها القسط الكبير.
أما مذهبه السياسي، فكان رحمه الله يرى رأي حزب الأمة، ويعمل لنشر مبدئه، وهو الاعتدال والدأب على أن تنال الأمة الاعتراف بشخصيتها لتنال الاستقلال التام.
Unknown page