Qissat Falsafa Yunaniyya
قصة الفلسفة اليونانية
Genres
كلا! إنما رب الكون إله واحد؛ لأن الكمال لا يتعدد، وهو لا يشبه البشر في الصورة أو في نوع التفكير، فهو «كله عين وكله أذن وكله عقل» وهو إذا فكر في الأشياء لا يلقى في التفكير مشقة ولا عناء؛ لأن التفكير يصدر منه كما يصدر الضوء عن الشمس، ولكنا إذا اتهمنا الإنسان بأنه يصور الله على صورته هو لا على حقيقته كما هي، فسنسائل أنفسنا: وكيف السبيل إلى معرفة الحقيقة المطلقة مجردة عن فكر الإنسان، وهنا يجيب إكزنوفنس نفسه فيقول: «لم تر الدنيا ولن ترى إلى الأبد رجلا يستطيع أن يعرف الإله معرفة صحيحة دقيقة ... وحتى لو شاءت المصادفة لإنسان أن يقول في الله الحق كاملا، فهو نفسه لن يعرف أنه يقول الحق.»
ولم يعتقد إكزنوفنس أن العالم شيء والله شيء آخر، يحكمه وهو منفصل عنه كما يحكم القائد جنوده، بل الله والعالم حقيقة واحدة، وإذن فقد كان مذهبه أقرب إلى الحلول.
من ذلك ترى أن إكزنوفنس كان متمما للفيثاغوريين، فلم يعد واحدهم الحسابي يقنعه ويرضيه، بل الواحد عنده هو الكون بأسره لا يعتريه تغير ولا تبدل ولا فناء، هذا الكون بل هذا الإله لا يتعدد، وقد جاء بعده «بارمنيدس» وبنى الفلسفة الإيلية على هذا الأساس، كما سترى بعد قليل.
وقد رأى «إكزنوفنس» في العالم رأيا نحب أن نوجزه قبل أن نطوي عنه الحديث، فقد صادفته في أنحاء الأرض التي جاس خلالها قواقع وأصداف وآثار لأسماك، فأيقن أن هذا اليابس قد خرج من البحر أولا وسيغوص في البحر مرة ثانية، وبذلك ينمحي البشر من الوجود، ولكن الأرض ستعود فترتفع مرة ثانية، وسيبدأ الإنسان سيرته الاولى، ثم تغوص الأرض وينمحي الإنسان، وهكذا دواليك، فأما الشمس والنجوم التي تراها سابحة في الفضاء فقطع من البخار المشتعل، ولا تدور الشمس حول الأرض، بل تمضي في خط مستقيم، حتى إذا داهمها الليل اختفت في الأفق البعيد إلى غير رجعة، ثم تولد في عالم الغيب شمس جديدة تشرق علينا في الصباح، وهكذا تطلع على الناس في كل يوم شمس تنشأ أثناء الليل من بخار الماء ... ومهما سخرنا اليوم من ذلك الرأي الساذج، فقد كان له أثر قوي في هدم عقائد اليونان الباطلة، وكان نقضها غرضا يملي على إكزنوفنس كل أفكاره، فقد أراد بهذا الرأي الذي قد نهزأ منه أن يقنع الناس أن هذه الشمس وما إليها مهما بلغت من القوة لا يجوز أن ينزلها الإنسان منزلة العبادة والتقديس؛ لأنها تزول وتفنى. (2) بارمنيدس
ولد في إيليا سنة 514ق.م، ولم يكد يبلغ حد النضوج حتى أجال النظر في جوانب الكون، يتفكر في خلق السماء والأرض وما بينهما، يلتمس لهذه الأشياء المتنافرة في ظاهرها علة جامعة، وأصلا شاملا، فرأى الأشياء قلبا حولا، لا يكاد شيء منها يستقر على حال لحظة واحدة، فهو في غد غيره اليوم، بل قد يكون ملء ناظريك الآن ويفنى غدا، فهذا الرجل الذي تراه أمامك ولا تشك في وجوده، سيزول وينمحي بعد حين، ويصبح كأن لم يكن، فأنت على حق إن قلت إنه موجود، وأنت على حق إن قلت إنه غير موجود؛ لأن الوجود وعدم الوجود يتعاورانه، فهو هذا وهو ذاك، وقل مثل ذلك في كل شيء. وقف بارمنيدس وسط هذا العباب الزاخر من الأشياء، ينشد الحقيقة الدائمة الثابتة الخالدة، التي لا ينتابها تغير ولا فناء. نظر إلى الأشياء فأدرك أنه إنما يحس منها صفاتها، وهذه الصفات متغيرة فانية، إلا شيئا واحدا ثابتا هو الوجود
Being ، فصفة الوجود هي جوهر الكون، هي أصل الكائنات جميعا، بل هي وحدها الحقيقة وكل ما عداها وهم خادع، وهو إذا ذكر الوجود فلا يدخل في حسابه الأشياء التي تقع تحت الحس؛ لأنها فانية، وإذن فهي لا تستقيم مع خلود الوجود، إنما يعني وجودا - أي كينونة - لا يتغير ولا يصير، ولا ينشأ ولا يفنى، وليس له ماض ولا حاضر ولا مستقبل، بل هو يمتد حتى يستوعب الأبد والأزل دون أن يعرف معنى الزمن - لأن الزمن تغير وتحول - والوجود وحدة لا تنقسم ولا تتجزأ، ولا تطرأ عليها الحركة والاضطراب - لأنهما صورة للتحول وليس التحول من صفاته - وليست للوجود صفات إلا صفة واحدة هي الوجود.
ذلك - من غير شك - تجريد في الفكر لم تعهده الفلسفة من قبل، فهو لم يلتمس علة الكون في ماء ولا هواء مما يرى بالعين ويحس باليد، ولم يلتمسه في العدد الذي يتصل بالأشياء المحسة صلة وثيقة، بل أنكر الأشياء جميعا واعتبرها في حكم العدم واعترف بحقيقة واحدة لم نصل إليها من طريق الحواس، بل بالعقل المجرد الخالص، أعني بها الكينونة - أي الوجود - ولكن الطفرة متعذرة مستحيلة، فلم يستطع بارمنيدس أن يثبت على تجريده الفكري إلى النهاية، بل انكفأ راجعا إلى المادة، يلتمس عندها القالب الذي يصب فيه فكرته، فحقيقة الكون وجود مطلق غير مقيد، ولكنه يشغل حيزا من مكان، وهو كري في شكله! والحيز والشكل من صفات المادة التي تلازمها وتميزها.
من أجل هذا اختلف المؤرخون في النظر إلى بارمنيدس، ففريق يضعه في طليعة القائلين بالمذهب العقلي
Idealism
لأنه أنكر الأشياء ولم يحسب لها حسابا باعتبارها صورا زائفة باطلة، توهمنا بها الحواس الخادعة، أي إنه لا يؤمن بالحواس، ويرفض ما تقدمه إليه من صور رفضا قاطعا، ولا يركن إلا للعقل وحده يستوحيه ويستهديه في سبيله إلى الحق الخالد، وفريق آخر يصر على حشره في زمرة الطائفة المادية الطبيعية الحسية، التي ترى من الكون مادة تدرك بالحس، ألم يصور لنفسه الكون كريا تحده الحدود ويشغل المكان؟ وهل يكون ذلك إلا مادة؟
Unknown page