Qissat Falsafa Haditha

Zaki Najib Mahmud d. 1414 AH
65

Qissat Falsafa Haditha

قصة الفلسفة الحديثة

Genres

Transcendental ».

فكتابه في «نقد العقل الخالص» يبحث في إمكان المعرفة العقلية التي لا تجيء عن طريق التجربة، بل التي تكون موجودة قبل التجربة، وهو لا يريد بكتابه هذا أن يكون دراسة فيما وراء الطبيعة، بل هو يريد أولا أن يثق بأن العلم بما وراء الطبيعة ممكن، فإذا ثبت إمكانه، فكيف يكون؟ وإن انتهى إلى جواب إيجابي فعندئذ يبدأ البحث فيما وراء الطبيعة حين ينتهي نقد العقل ... ولما كان من المعلوم أن كل ضروب العلم هي عبارة عن أحكام يثبتها الإنسان للأشياء أو ينفيها عنها، كان في استطاعتنا أن نقول إن مبحث هذا الكتاب هو: هل في العقل أحكام نشأت فيه قبل أن تأتيه من العالم الخارجي؟ ولسنا نريد بذلك الأحكام التحليلية التي لا تزيد على أن تخبر بما هو كائن في المخبر عنه. كأن تقول عن الجسم إنه هو ما يتصف بالامتداد، وعن الخط المستقيم بأنه ما ليس بمعوج، إذ إننا لا نشك في أن هذا الضرب من الأحكام في ميسور العقل بغير أن يلجأ إلى التجربة الحسية؛ لأن هذه لا تضيف إلى علمنا شيئا جديدا، وأكثر ما تؤديه هو توضيح ما نعلمه، إنما نريد الأحكام الإنشائية التي تخبرنا بشيء جديد عن الشيء المخبر عنه كأن نصف الجسم بالثقل، والخط المستقيم بأنه أقصر الطرق بين نقطتين، فهل النوع من الأحكام الإنشائية التي يأتي فيها الخبر بشيء جديد عن المبتدأ في متناول العقل المجرد الخالص من أن يستمدها من الخارج؟ هذا هو موضوع كتاب «نقد العقل الخالص» الذي نستطيع أن نصوغ الغرض منه في هذه العبارة الموجزة: هل الأحكام الإنشائية السابقة للتجربة في مقدور العقل وإمكانه؟ وإذا كانت كذلك فما وسيلة إمكانها؟

ولكن هذا السؤال سرعان ما يتفرع إلى أسئلة ثلاثة: (أ)

فالرياضيات كلها تتألف من هذه الأحكام الإنشائية، فأنت لا تشك بأن 3 + 4 = 7، ولكن هذه النتيجة التي وصلت إليها ليست متضمنة في مقدماتها، فلا السبعة موجودة في العدد ثلاثة، ولا هي موجودة في العدد أربعة، وليس في كلا الرقمين ما يدل على أن جمعهما إلى بعضهما ينتج سبعة، وإذن فهو خبر جديد أخبرنا به عن مبتدأ لا يتضمنه ولا يحتويه، كذلك أنت لا تتردد في الحكم على الخط المستقيم بأنه أقصر الخطوط بين نقطتين، مع أن هذا الحكم لا يوجد في الخط المستقيم، وإذن فهو جديد منشأ ... فالرياضيات أحكامها إنشائية، وهي من إنشاء العقل دون التجربة الحسية، وعلى ذلك يتفرع من السؤال الأصلي سؤال فرعي هو: كيف أمكن للعقل معرفة الرياضيات؟ (ب)

كذلك العلم الطبيعي الذي لا يجيء عن طريق الحواس فيه قضايا أنشأها العقل الخالص، وهي في الوقت نفسه أحكام إنشائية، أي تضيف علما جديدا، مثال ذلك قولنا: إن كل تغير لا بد أن يكون له سبب، فهذا حكم عقلي لم نحتج إلى التجربة الحسية لمعرفته، وإذن فقد تفرع من السؤال الأصلي سؤال فرعي ثان هو: كيف أمكن معرفة العلم الطبيعي الخالص؟ (ج)

وأخيرا هنالك بعض القضايا التي هي فوق متناول الحس مثل قولك: إن الروح خالدة، فهذه أيضا فيها حكم إنشائي أنشأه العقل المحض مستقلا عن التجربة، وحتى هؤلاء الذين ينكرون بداهة مثل هذه القضية، فهم على الأقل قد بسطوا لأنفسهم هذا السؤال، ومجرد السؤال فيه احتمال أن تكون القضية صحيحة ، وإذن يتفرع من السؤال الأصلي سؤال فرعي ثالث وهو: هل المعرفة الميتافيزيقية التي تسمو على المحسوسات ممكنة؟

والجواب عن هذه الأسئلة الثلاثة يكون الجزء الأول من كتاب نقد العقل وهو أهم أجزاء الكتاب.

ولكي يجيب عن هذه الأسئلة في إمكان المعرفة، نظر فإذا ب «لوك» من ناحية قد حصر المعرفة في الحواس، كما حصرها «ليبنتز» في العقل ، فنقد المذهبين جميعا، وقال: إن للمعرفة الإنسانية أساسين مختلفين لا غنى لأحدهما عن الآخر: (1)

الحس، وبه نكتسب الإدراكات الحسية باستقبالنا للأحاسيس. (2)

والفكر، وبه نكون المدركات العقلية بواسطة اختيارنا مما يأتي إلينا من الإحساسات ما يلائمنا وما نحتاج إليه، فلا يمكن بأية حال أن تكون التجربة هي الميدان الوحيد الذي تنحصر عقولنا في حدوده، فالتجربة تدلنا على ما هو واقع، ولكنها لا تدلنا على أن هذا الواقع لا بد بالضرورة أن يكون هكذا، ولا يكون على صورة أخرى، وهي لذلك لا تمدنا قط بالحقائق العامة، مع أن هذا الضرب من المعرفة هو ما تنزع إليه عقولنا بصفة خاصة، فالتجربة توقظ العقل أكثر مما تقنعه، وما دام العقل في مكنته أن يصل إلى الحقائق العامة مع أنها ليست من التجربة. فهو إذن مصدر العلم إلى جانب التجربة. ولعل أنصع مثال يدل على وصول العقل إلى المعرفة بغير طريق التجربة هو مثال الرياضة؛ لأنها يقينية ويستحيل على التجربة أن تنقضها يوما ما، فلقد يجوز لك أن تتصور الشمس مشرقة من الغرب في الغد، وأن النار قد تتبدل عليها الظروف، فلا تعود قادرة على إحراق عصاك الخشبية، ولكنك لا تستطيع بحال من الأحوال أن تتصور أن العالم سيحدث فيه ما يجعل اثنين واثنين لا تساوي أربعة، فهذه الحقيقة الرياضية ثابتة إلى الأبد ومن الأزل، ولا تحتاج لكسبها إلى تجربة؛ لأنها حقيقة مطلقة لازمة الحدوث، والتجربة لا تمدنا إلا بإحساسات متفرقة، وأحداث مفككة، لا يطرد تتابعها، فقد تجيء في غد على غير النظام الذي جاءت به اليوم أو أمس. إذن فهذه الحقائق الرياضية وأشباهها تستمد ضرورتها من تركيب عقولنا الفطري، من الطريقة الطبيعية التي تعمل على مقتضاها إذ إن عقل الإنسان ليس قطعة من الشمع تنفعل بالتجارب دون أن يملك لنفسه شيئا، كلا ولا مجرد اسم أطلقناه على مجموعة الحالات العقلية التي تتتابع في سلسلة متلاصقة الحلقات، ولكنه عضو فعال يتقبل الإحساسات فيشكلها وينسقها كيف شاء، ثم يحولها إلى أفكار. هو عضو تأتيه آلاف الآثار الحسية في فوضى، فيتناولها بالتنظيم، حتى تصبح وحدة فكرية متماسكة، ولكن كيف يتم له ذلك؟

Unknown page