101

Qiṣṣat al-falsafa al-ḥadītha

قصة الفلسفة الحديثة

Genres

ولعل هذا الاحترام الذي يبديه الرجل للمرأة إحدى نتائج الديانة المسيحية، وهو سبب لتلك الحركة الرومانتيكية التي تمجد الشعور والغريزة والإرادة، وتضعها جميعا فوق العقل والذكاء. ولقد أدرك أهل القارة الآسيوية في ذلك ما لم يدركه الأوروبيون؛ لأنهم يعترفون اعترافا صريحا بضعة المرأة، إذ لا ريب في أن كل قانون يعامل المرأة على أساس مساواتها بالرجل باطل من أوله، فإذا أراد القانون أن يسويها في الحقوق بالرجل فليعطها أولا عقلا كعقول الرجال، هذا ولقد أصاب الشرقيون مرة أخرى في تقريرهم لمبدأ تعدد الزوجات؛ لأنه مبدأ تحتمه الطبيعة وتبرره. والعجب أن الأوروبيين في الوقت الذي يستنكرون فيه هذا المبدأ نظريا يتبعونه عمليا، فما أحسب أن بينهم من ينفذ مبدأ الزوجة الواحدة على وجهه الصحيح.

ومن الخرق أيضا أن نسمح للمرأة بوراثة مال زوجها؛ لأنها مسرفة بطبعها، وقد نشأ إسرافها من تعلق أطماعها بالأشياء المادية، فتراها تبذل بغير حساب في تجملها وزينتها، وهي في ذلك مخالفة للرجل الذي يتوجه بطموحه إلى نواح غير مادية كالعلم والشجاعة وما إليهما، وهو بذلك يستنفد مجهوده فيما لا يحتاج إلى البذل والإسراف.

يقول «أرسطو» في كتاب «السياسة»: إنه إذا سمح للمرأة بالزيادة من حقوقها كان ذلك نذيرا بزوال الدولة ودمارها، وهو يستشهد على ذلك «بإسبرطه»، ولقد جاء التاريخ الحديث بأمثلة تؤيد ما ذهب إليه ذلك الفيلسوف العظيم، فزيادة نفوذ المرأة في فرنسا منذ عهد لويس الثالث عشر أدى إلى تدهور الحكومة والبلاط، وهذا أنتج الثورة الفرنسية الكبرى وما أعقبها من ثورات.

نرى من ذلك كله أنه كلما وهنت علاقة الرجل بالمرأة كان خيرا وأفضل، فليس النساء «شرا لا بد منه.» كما يقولون، إذ الحياة بغيرهن آمن وأمتع، فليتدبر الرجال الأمر، وليفكروا طويلا في هذه الأحبولة التي نصبت لهم في النساء، وفي هذه المهزلة الساخرة التي ترمي إليها الإرادة من التناسل، إن تقدم العقل سيحد بل سيمحو إرادة النسل. فلست أدري لماذا نرفع الستار عن حياة جديدة كلما أسدلت على عزيمة وموت؟ لست أدري لماذا نخلق بأنفسنا معركة جديدة وهزيمة جديدة كلما فرغنا من كفاح ينتهي بالاندحار؟ حتام تخدع الناس هذه الزوبعة التي تثور حول لا شيء، حتام نصبر على هذا الألم الذي لا ينتهي، والذي لا يؤدي إلا إلى عناء وشر، متى نتذرع بالشجاعة فنتحدى الإرادة وننبئها أن حب الحياة أكذوبة، وأن أعظم نعيم للناس جميعا هو الموت؟

نقد

لم يكن عجيبا أن ينطق «شوبنهور» بهذه الفلسفة المتشائمة بعد ما شهدته أوروبا من كوارث الحروب النابليونية التي أنهكتها وذهبت بريحها؛ لأنه إذا ما اشتدت الكروب بالإنسان أسلم نفسه لليأس القاتل، وغاضت منه كل بواعث الأمل؛ لشعوره العميق حينئذ بضعف إرادته أمام إرادة الكون القوية الجبارة، هكذا حدث في اليونان بعد حروب الإسكندر، فنشأت بها الرواقية الشاحبة، والأبيقورية المتعثرة اليائسة، وهكذا حدث في روما بعد قيصر، ففي كلتا الحالين تدفقت في الصدور تلك العقائد التي توقن يقينا جازما بقوة إرادة الطبيعة وجبروتها إذا قيست بإرادة الإنسان الواهية العاجزة، التي تسلم بأن لا حول لهذا الإنسان أمام قوة القدر. ثم هكذا كانت الحال في أوروبا بعد عام 1815م حيث خارت قواها، وأظلمت الدنيا أمام ناظريها، فاتخذت من «شوبنهور» لسانا يعبر عما في نفسها من خيبة ويأس.

ولا شك أنه مما عمل على إيجاد هذا الروح اليائس في نفس «شوبنهور» ما كان يعيش فيه من فراغ؛ إذ الحياة المليئة بالعمل والنشاط تخلق غالبا المرح والتفاؤل. ومن العسير أن تنعم النفس بالهدوء والطمأنينة إذا خلت الحياة من العمل. ولقد كان لدى فيلسوفنا من المال ما يكفيه، فعاش في فراغ متصل، حتى أيقن أن العمل المتواصل أخف احتمالا من الفراغ الدائم. ولعل نزوع الفلاسفة عامة إلى الكآبة راجع إلى خلو حياتهم من النشاط والحركة.

ولكن فلسفة «شوبنهور» لم تخل من بعض الأخطاء التي نشير إليها هنا إشارة عجلى: (1)

فلا ريب أنه بالغ في رأيه في النساء، وأسرف في سوء ظنه بهن إسرافا شديدا، فما كل النساء خادعات ماكرات كما ظن، وليس جمالهن ناشئا عن الغريزة الجنسية وحدها كما ذهب، وليت شعري كم يبقى لدينا من الجمال إذا نحن أنكرنا جمال النساء؟ ولكن لعل «لشوبنهور» عذره في رأيه هذا لما وجد من أمه من مقت وحقد. (2)

ثم ما هذا التشاؤم كله من الحياة؟ أليس في التشاؤم كثير من الأنانية؟ أوكلما تبرم الإنسان بنفسه انقلب إلى الكون بأسره فألقى عليه التبعة؟ لقد نسينا إذن ما أرشدنا إليه «سبينوزا» من أن ما نحس به نحن من سخط ومن غضب أحكام بشرية ، نخطئ غالبا إذا طبقناها على العالم، فلربما كان كرهنا للعالم هو كره لأنفسنا قد تنكر واستخفى، فما ينبغي أن تكون الإساءة منا، ثم نقذف بالتهمة جزافا على «البيئة» أو على «العالم» إنكالا منا على أن البيئة أو العالم صامتان ليس لهما ألسنة يدافعان بهما عن نفسيهما. إن الرجل السليم المعافى ذا العقل الناضج الرشيد، ليقبل الحياة بما فيها من قيود؛ لأنه لا يتوقع من السماء أن تكون خادما طيعا رهن إشارته، وهو يعلم أنه من حمق الرأي - كما يقول كارليل - أن نلعن الشمس؛ لأنها لا تشعل لنا «السجائر» حينما نريد منها ذلك، ومع ذلك فلعلها فاعلة لو أوتينا العلم والذكاء، فلقد ينقلب هذا الكون الفسيح إلى ميدان لذة وسعادة إذا نحن عاوناه بشيء من الإشراق في نفوسنا، وعلى كل حال فليس العالم صديقا لنا كما أنه ليس بعدونا، فما هو إلا مادة أولية في أيدينا، تكون منه الجنة، أو يكون منه الجحيم حسب ما تكون عليه نفوسنا. (3)

Unknown page