ولن يتسع لنا الوقت إذا حاولنا مشاهدة جميع قاعات هذا القصر الفخم وأبهائه، وخير لنا أن نتجه الآن إلى قصر آخر، يسمى بجنة العريف، وهو جوسق القصر الأكبر، يصور ظاهره بساطة الفن الشرقي، وقد أصابه الآن الدمار، وحطمته يد الدهر والإنسان، حتى إن نقوشه العربية الدقيقة شوهت بما لطختها به يد الجهل من طبقات الملاط، واختفت تماثيله المنحوتة وتولى جماله، وزالت نضارته منذ حين.
لم يكن يتوقع العرب والمملكة المسيحية القوية على مرمى سهم منهم، أن يعيشوا أكثر من قرنين في رفاغة من العيش وقد همست في آذانهم النذر، وأحسوا قرب زوالهم في الربع الثالث من القرن الخامس عشر، وكان اتحاد أراغون وقشتالة بتزويج فرديناند بإيزابلا أول ناعق بالفناء، وكان يحكم غرناطة في هذا الحين مولاي علي أبو الحسن، وكان من أشجع الشجعان قوة وجرأة، فصمم على أن يسبق مكايدهما، وأن يناجزهما الحرب، وكانت بداءة الشر أن أبى أن يؤدي إليهما الإتاوة، حتى إذا وصل إلى حضرته رسول فرديناند يلح في طلبها وينذر ويوعد، أجابه أبو الحسن في صلف وكبرياء: «قل لمولاك إن سلاطين غرناطة الذين اعتادوا أداء الإتاوات قد ماتوا، وإن دار الضرب بغرناطة لا تطبع الآن غير السيوف.» ثم أرسل غارة شعواء على المسيحيين بقامة الصخرة ليعزز قوله بالعمل.
وقد قص علينا الكاتب الأمريكي الموهوب واشنطون إيرفنج،
13
عنف هذه الغارة في كتابه «آخر حروب العرب بإسبانيا» فقال:
في سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وألف من الميلاد (886ه) دهم أهل الصخرة بياتا وهم نائمون، وكان حارس القلعة قد هجر مكانه منها، والتجأ إلى كن يقيه العواصف والأنواء التي اشتد غضبها، وثارت ثورتها منذ ثلاث ليال متعاقبة، وقر في نفسه أن أحدا من الأعداء لن يخرج في مثل هذه الليلة الليلاء، وغاب عنه أن أرواح الشر أكثر ما تعمل في ظلام الليالي العاصفة، وفي منتصف الليل ارتفع الضجيج في المدينة، فكان أشد إرهابا من صخب الأنواء، وصاح الإسبان مذعورين: العرب العرب، وسرت أصواتهم في كل ناحية من المدينة ممتزجة بصليل السيوف وأنين القتلى وصيحات الظفر والانتصار، وخيل إلى أهل المدينة وقد شدههم الذعر، أن شياطين الليل طارت إليهم على أجنحة الريح وسلبتهم حصونهم ومعاقلهم، وارتفعت صيحات القتال من كل مكان، نداء يرجع نداء، وصوت يردد صوتا، هذا من فوق، وهذا من تحت، وهذا من معاقل القلعة، وهذا من طرق المدينة، نعم، كان العرب في كل مكان وقد لفهم الظلام وسترتهم الأنواء، غير أنهم مع كل هذا كانوا يعملون متعاونين على نظام دقيق وخطة محكمة، وباغت جنود أبي الحسن حراس الصخرة بعد أن هبوا من نومهم، فطارت نفوسهم شعاعا، وأناخ عليهم العرب فاستأصلوهم قبل أن يغادروا ثكناتهم، وبعد فترة قصيرة انتهى الصدام والقتال، والتجأ من نجا من أهل المدينة إلى مخابئ دورهم، أو ذهب إلى الأعداء راضيا بالذل والإسار، وسكنت السيوف في أغمادها وسكت صليلها، ولكن العواصف ما زالت تزأر وتصخب مختلطة بأصوات العرب الذين خرجوا هائمين يبحثون عن الغنائم والأسلاب، وبينما كان السكان يرتعدون فرقا مما سيصيبهم، إذا صوت بوق يدوي في أرجاء المدينة داعيا إياهم أن يجتمعوا عزلا في الميدان الكبير، وهنالك أحاط بهم الجند لحراستهم حتى الصباح، وكان مما يثير الحزن والأسى أن ترى - وقد انبثق الفجر - هذه الجموع الحاشدة التي كانت تعيش في ترف ونعيم وقد اختلط حابلهم بنابلهم وشيوخهم بأطفالهم، ونساؤهم برجالهم، وأغنياؤهم بفقرائهم، وليس على أجسامهم ما يقيهم قارس البرد وعاصف الأنواء، وزاد الضجيج وارتفعت أصوات التوسل والرجاء، ولكن مولاي أبا الحسن القاسي سد أذنيه وأغلق قلبه دون العطف والرحمة، وأمر بهم أن يساقوا جميعا إلى غرناطة كما يساق العبيد، وأبقى بالمدينة والقلعة حراسا أشداء، وأمرهم أن يتيقظوا لكل طارق، ثم قفل إلى غرناطة والانتصار ينفخ خياشيمه كبرا وزهوا، ودخلها على رأس جنده ومعهم الغنائم والأسلاب، والبيارق والأعلام، وفي أثناء ما أقيم من الولائم والأفراح لهذا الفتح المبين، قدم أسرى الصخرة من الرجال والنساء والأطفال وقد نهكهم التعب، وأكل قلوبهم اليأس، فدخلوا المدينة كما يدخلها قطيع من البقر قد لفه الليل بسواق حطم.
وبهت أهل غرناطة وذعروا وتألموا لقسوة أبي الحسن، وشعر عقلاؤهم بسوء مغبة هذا التهور وسموه: بداية النهاية، وصاحوا: «ويل لغرناطة! ويل لها! لقد دنت ساعتها، وستقع أنقاض الصخرة فوق رءوسنا.»
ولم يكن الانتقام بعيدا؛ فقد استولى بعد قليل مركيز قادس على حصن الحمة غيلة، وبهذا الاستيلاء تمكن النصارى من وضع حامية قوية في قلب بلاد المسلمين، وعلى مسافة قصيرة من غرناطة نفسها، وكم حاول أبو الحسن أن يسترد هذا الحصن فلم يفلح؛ لأن من به من الجنود أظهروا شجاعة نادرة المثال، وصبروا وصابروا حتى جاءهم المدد، وأدركتهم النجدة، وارتفع الصياح بغرناطة: «ويل للحمة!! لقد سقطت الحمة وأصبح مفتاح غرناطة اليوم في أيدي الكفار.»
ومن ذلك الحين أصبح هذا الحصن شوكة في جنوب ملوك العرب، فمنه خرج كونت تنديلة وعاث في المرج، وأكثر فيه الفساد.
حفز الانتصار كلا الفريقين من المسلمين والنصارى إلى شن الغارات التي لم يكن لها من أثر إلا التخريب وإثارة الأحقاد، وصمم النصارى آخر الأمر على أن يذيقوا العرب النكال، ويدهموهم بجيش جرار، فعزموا على غزو ولاية مالقة، وجمعوا كتائبهم بزعامة مركيز قادس وغيره من كبار القواد، ثم زحفوا على العرب بهذا الجيش المشئوم،
Unknown page