والدكتاتور لا يسمي نفسه ولا يسميه أتباعه «دكتاتورا»، بل يسمي نفسه ويسمونه «زعيما»؛ ومن هنا تتوالى الكوارث. كتب صاحبنا (الثقافة، 8 أكتوبر 1940م) يقول في ذلك: وفي هذا الزعيم تجتمع السلطة التنفيذية والتمثيل النيابي معا، فهو الذي ينطق برغبات الشعب، وهو الذي ينفذ هذه الرغبات. وليته يقف عند هذا الظن بأنه هو الذي يمثل أمته في زمانه وحده، بل تراه يتوهم أنه إنما يمثلها على طول تاريخها؛ ففيه جوهرها لا فرق بين ماض وحاضر ومستقبل، فكأنه لم يعد شخصا واحدا ذا أجل محدود ببداية ونهاية، بل هو أقرب إلى الفكرة المجردة التي تجاوز حدود المكان والزمان! إذا نطق الزعيم فكلماته قانون، وإذا سلك الزعيم على صورة معينة فسلوكه ذاك سنة على الناس أن يحتذوها، وهل الزعيم من أمته إلا رأسها الذي يفكر ويدها التي تدبر؟ فأين هي أعضاء الجسد التي يجوز لها أن تعصي ما يفكر لها الرأس وما تدبر اليدان؟! الزعيم في أمته أب يرعى أسرته؛ لا لأن أفراد الأسرة انتخبوه أبا لهم، بل هو الأب بحكم طبائع الأمور التي لا اختلاف عليها ولا نزاع، والعجب هو أن الزعيم وأتباعه يطلقون على هذه الصورة اسم ديمقراطية! ولكنها ديمقراطية من نوع جديد.
ولم تكن مصادفة من صاحبنا أن يقرأ في تلك الأيام نماذج من المدن الفاضلة لما تصورها الفلاسفة على اختلاف عصورهم ليخلص لنفسه منها بصورة مثلى. لقد كان بالطبع على علم تام بتفصيلات «الجمهورية» لأفلاطون، فقرأ «أطلنطس الجديدة» لفرنسيس بيكون و«يوتوبيا» لتومس مور، و«إريوون» (أو الأرض التي لا وجود لها) لصموئيل بتلر، و«يوتوبيا حديثة» تأليف ه. ج. ولز، وغيرها، وجمعها في كتاب وقدم له بمقدمة تدل على موقفه إذ ذاك، جاء فيها: «عندما يضيق الإنسان ذرعا بالظروف المحيطة به ثم يعجز عن تغييرها على النحو الذي يرتضيه فإنه يسترسل في أحلامه ليظفر في دنيا الخيال بما استحال عليه أن يظفر به في عالم الواقع ...»
كان عقلا يبحث لنفسه عن طريق، وظل يبحث خلال أعوام الثلاثينيات، إنه لم يكف يوما عن القراءة، ولم يكف يوما عن الكتابة، لكنه كان حائرا لا يجد ما يستريح إليه، أو قل: إنه كان يستريح للفكرة المعينة مرة ولنقيضها مرة أخرى، لقد رأيناه متعلقا بالصوفية يوما، وبالعلم في صرامة منهجه يوما آخر، لكنه من خلال ذلك كله كان يحس في طوية نفسه إحساسا فيه قوة وفيه غموض في آن معا بأفكار واتجاهات أحب إلى نفسه من أفكار أخرى واتجاهات أخرى، وكأنما كان في صدره سؤال يتردد وينتظر الجواب: أليس من سبيل يجمع عدة أطراف في رقعة واحدة؟ يجمع العلم والدين والتصوف والحرية؟ أليس ثمة من سبيل يجمع مادة إلى روح ويجمع عقلا إلى غريزة؟ ...
وفي 17 من يناير سنة 1944م كتب - في عيد الهجرة - مقالا بعنوان: «هجرة الروح» (مجلة الرسالة)، فكان بمثابة الإعلان عن بداية عهد جديد؛ عهد لا يترك نفسه فيه نهبا لما يقوله الآخرون، بل يتابع الآخرين تحصيلا وفهما ونقدا ومناقشة، حتى يرسو لنفسه على رأي يكون رأيه هو، وإلى موقف يكون موقفه هو، وذلك ما حدث بالفعل، وسنرى في الفصول التالية من هذا الكتاب كيف أن صاحبنا قد بدأ طريقا عن اقتناع ودراية، والتزمه حتى هذه الساعة.
جاء في مقاله «هجرة الروح»: كم قرأت وقرأت، فكنت أتلون بما أقرأ، كأني دودة ضعيفة تتلون بلون الأرض التي تدب عليها وتسعى؛ فهي تصفر إن كانت تحبو فوق الرمال، وهي تخضر إذا كانت تزحف في المروج. كنت أقرأ للشكاك فأشك، ثم أقرأ للمؤمنين فأومن، هذا كتاب متشائم أطالعه، فإذا أنا الساخط الناقم على حياتي ودنياي؛ وذلك كتاب متفائل أطالعه، فإذا أن الهاش الباش المرح الطروب، ولكن أراد لي الله خيرا، أفقت إلى نفسي فوجدتها مضطربة هائمة يعصف بها الريح هنا وهناك، وهي في كل ذلك تعاني من القلق والهم ما تعاني.
نعم، كانت تلك الصرخة بداية عهد جديد، أكون فيه نفسي لا لنفس غيري، وحتى إذا أخذت عن الآخرين فكرا فلا يكون ذلك إلا عن اقتناع.
وكأنما أراد الله تثبيتا لعهدي فنقلني من حال إلى حال، ومن بلد إلى بلد؛ إذ سافرت بعدها فورا في بعثة دراسية إلى إنجلترا، وهناك عشت بعقلي مرحلة الانتقال.
فوداعا يا صاحبي الشاب، الذي كنت أروي عنه كأنه شخص آخر، وسأتحدث بعد الآن عن نفسي بضمير المتكلم؛ لأنني ولدت ولادة جديدة، وسلكت طريقا فكرية جديدة هي طريق إلى يومي هذا.
الفصل الثاني
مرحلة الانتقال
Unknown page