كانت المرحلة الثانية من الرحلة الثقافية التي ارتحلتها دارسا ومتأملا في دنيا التراث في مدينة البصرة إبان القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي)، وها نحن أولاء على أبواب المرحلة الثالثة، وسوف ننتقل فيها إلى بغداد التي كان بنو العباس قد أنشأوها لتكون مقرا للخلافة الجديدة، وستمتد بنا هذه المرحلة ما يقرب من قرنين كاملين؛ الثالث والرابع من التاريخ الهجري (التاسع والعاشر من تاريخ الميلاد)، وفي هذه الفترة بلغ العرب بثقافتهم إلى أوج أوجها.
لكنني إذا أردت فهما صحيحا للروح التي سادت تلك الفترة من الناحية الثقافية، لم يكن يكفيني أن أسرد المنتجات سردا عدديا ، فأقول إنهم كتبوا كذا وكذا وترجموا كيت وكيت؛ فهذه المعلومات الإحصائية لها أهمية أولى عند الوراقين، أما من كانت الأولوية عندهم للثقافة في روحها ومعدنها، فعدد المنتجات لا يكفيه، فتراه يبحث عن العوامل التي اصطرعت لتؤدي إلى ظهور تلك المنتجات.
وفي حالتنا هذه التي بين أيدينا - وأعني الحياة الثقافية العربية خلال الفترة التي حددناها - إذا ما كشفنا عن بعض العوامل الرئيسية التي فعلت فعلها؛ انكشف لنا خبيء ما كان لينكشف لو أننا اكتفينا بالإحصاءات العددية لما كتبوه وما ترجموه، وإني لأقولها هنا في غير تواضع لكي أتحمل التبعة كلها، وهي أن تلك العوامل التي رأيتها مفسرة للروح الثقافية التي سادت عندئذ هي رؤيتي وحدي، فإذا كان استدلالي خاطئا فأنا وحدي الذي أخطأ أو مصيبا فأنا الذي أصاب.
فلقد كانت مرحلتي الثانية التي صورتها في الفقرة السابقة إبان الخلافة الأموية، وأما المرحلة الثالثة التي أهم الآن بتصويرها فقد وقعت في خلافة بني العباس، وإذا نحن لم ندرك - في انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين - كيف كان التحالف وثيقا بين السياسة والثقافة فاتنا شيء كثير.
فلنذكر بادئ ذي بدء أن البيت الأموي كان عربيا خالصا، وأراد أن تكون السيادة للعرب وحدهم دون سائر المسلمين من غير العرب وبصفة خاصة الفرس، ولقد أطلقت كلمة «الموالي» على الفرس المسلمين؛ فكان من الطبيعي أن يضيق هؤلاء الموالي؛ فهم يعلمون عن الإسلام أنه لا يفرق بين مسلم ومسلم إلا بالتقوى، ولكن ها هم أولاء يرون - من الناحية العملية - أن الخلافة العربية تتعصب للعرب وتخصهم وحدهم بمكان السيادة، فماذا يحدث لهؤلاء الموالي من الفرس إلا أن يرتد بعضهم من الساخطين إلى عقائدهم الدينية الأولى قبل الإسلام، وأن يجعلوا ردتهم تلك سرا في صدورهم؛ ومن هنا شاعت موجة من أوهام الخرافة، هي التي يطلقون عليها اسم «الزندقة»، كما شاعت منافسات وطنية إقليمية، كل فريق يعلي من شأن إقليمه وثقافته وتاريخه: العرب الخلص من ناحية، والفرس من ناحية أخرى، وتلك هي الحركة التي يطلقون عليها اسم «الشعوبية».
بدأ بنو العباس يتحركون للإطاحة بالدولة الأموية والاستيلاء على الخلافة، فأول ما يخطر لهم أن يفعلوه هو الاستعانة بالموالي الساخطين. وبهذا التحالف استطاع العباسيون أن يقتلعوا الأمويين، وأن يتولوا الخلافة سنة 750 ميلادية، وأنشئوا بغداد لتكون مقرا لخلافتهم. لكن الذي يهمنا في هذا المقام ليس هو الأحداث السياسية في ذاتها، بل هو التحولات الثقافية التي تسبق تلك الأحداث وتصاحبها وتلحق بها، فلئن كانت مصلحة الأمويين - وهم في الحكم - قد اقتضتهم أن يعلوا من شأن الثقافة العربية وحدها، وألا يعملوا جادين على فتح الأبواب لسائر الثقافات، فمصلحة العباسيين قد اقتضتهم شيئا آخر، هو أن يفسحوا المجال للثقافات الأخرى - وفي مقدمتها ثقافة الفرس - إرضاء للموالي الذين ساعدوا بني العباس في الإطاحة ببني أمية، ثم ما هو إلا أن بدأت حركة النقل على أوسع نطاق من ثقافة اليونان.
فإذا رأينا المأمون يقيم للترجمة عن اليونان فلسفتهم وعلومهم «دار الحكمة» في بغداد، فكان ما كان من سريان فكر جديد في شرايين الثقافة العربية؛ أدى بها إلى الارتفاع كما ارتفعت خلال القرنين الثالث والرابع من التاريخ الهجري (التاسع والعاشر من التاريخ الميلادي)، فمن المهم أن نحسن فهم الأسباب التي كانت وراء الحركة كلها - وهي أسباب سياسية في أساسها - لنعلم كيف تتآلف السياسة مع الثقافة في حركات النهوض.
ولن تكون لنفسك صورة صحيحة عن مدى ما تغيرت به الثقافة العربية نتيجة لذلك التحول إلا إذا قرأت لبعض الأعلام شيئا مما أنتجوه، وعندئذ ترى كم هي جديدة تلك الصورة الثقافية الجديدة، فلم يكن للعرب سابق عهد بمثل هذا التفكير، ولا كان لأصحاب المصادر المنقولة إلى العربية في حركة الترجمة سابق عهد بمثل هذه الكتابة، فنحن الآن أمام فكر جديد سيق لنا بأسلوب جديد.
اقرأ الجاحظ من القرن التاسع الميلادي، ونظيره أبا حيان التوحيدي من القرن العاشر، اقرأ لأعلام المتكلمين كالنظام والعلاف؛ لترى على أية صورة باتت الأفكار الإسلامية الخالصة تعرض في تحليل منطقي بلغ من الدقة غاية قصوى، واقرأ - من نتاج القرن العاشر - رسائل إخوان الصفا، أو من شئت من الفلاسفة في تلك الفترة: الفارابي أو ابن سينا، بل اقرأ لشعراء ذلك العصر: المتنبي أو أبي العلاء المعري، أو اقرأ لأعلام النقد الأدبي في القرنين التاسع والعاشر معا كابن سلام والقاضي الجرجاني وعبد القاهر الجرجاني، اقرأ من كل تلك الكنوز ما شئت تجد ثمرة فكرية جديدة، فيها نضج وعمق وبصيرة؛ جاءت نتيجة التزاوج بين ثقافة عربية تقليدية أراد المتعصبون من بني أمية أن يقصروا أنفسهم عليها، وثقافات أخرى مختلفة المنحنى والمذاق، أرادت لها السياسة بادئ الأمر أن تسري في العقل العربي؛ فارتفعت الثقافة وارتفع الإنسان.
4
Unknown page